أسئلة غاندى

بالنسبة لى لم يكن فيلم «غاندى» مجرد فيلم أشاهده، بل كان عاصفة من الأفكار والمشاعر والأسئلة المحرجة. خذ عندك مثلا على سبيل المثال: لماذا لم يشهد تاريخنا الحديث زعماء من طراز غاندى ومحمد على جناح؟ ها هو ذا غاندى، المحامى المتأنق الذى يرتدى سترته على الطريقة الإنجليزية فى جنوب أفريقيا، تحول إلى ذلك الزاهد الناسك بمجرد عودته للهند. خلع ثيابه الأوروبية واكتفى بقطعة من القماش يرتديها مثل أفقر هندى. يحلب الماعز ويغزل ثوبه ويزلزل الإمبراطورية البريطانية التى لا تغرب عنها الشمس بأسرها. وكلما نشبت أحداث عنف لجأ للصوم تكفيرًا عن ذنوب الأمة الهندية. حتى صار ذلك الزاهد ذا الجذع النحيل العارى والوجه الذى يشع نورا.
وهذا أيضا محمد على جناح، مؤسس باكستان، ملىء بالجدية والشموخ. صحيح أنه ظل يرتدى السترة الأنيقة، ولكنه كان زعيمًا بمعنى الكلمة. فلماذا لم تشهد بلادنا العربية زعماء سياسيين على هذه الشاكلة؟ هل فينا شىء خطأ؟ أم أننا قليلو الحظ فعلا؟
■ ■ ■
الفيلم مذهل (إنتاج١٩٨٢)، وأنصحكم جميعًا بمشاهدته. كان قلبى يتمزّق حين تصعد الكاميرا عاليًا، فتظهر البيوت الفقيرة والأحياء العشوائية. فتنتابنى تساؤلات مقلقة: ما الذى جعل الإنجليز أمة راقية متحضرة وجعل الشرقيين شعوبًا عشوائية؟ هل هو العيب فى الجينات؟ أم أن الحياة دورات من الصعود والهبوط، تصادف أن جيلنا المنكوب وُلد فى سفحها، بينما ارتقى الأوروبيون على قمتها؟
حينما كنت أشاهد رقى الإنجليز وتحضرهم (على الرغم من قسوتهم اللامتناهية)، وأشاهد فى الوقت نفسه تخلف الهنود والمذابح التى حدثت فيما بينهم، كانت تنتابنى أسئلة محرجة: هل كان الاستعمار شرًّا كله؟ أم أنه شر ينطوى على بعض الخير، مثلما تتخفى الأشياء فى أضدادها؟ هل كان دوى المدافع الإنجليزية نافعًا لإيقاظ الشعوب الشرقية بالقدر الذى كان مؤذيًا حين أصلتهم هذه المدافع بنيرانها وبارودها؟ وهل كان هناك بعض الصدق فى مقولة «عبء الرجل الأبيض» فى تمدين الشعوب المتخلفة؟ هل هو مجرد شعار استعمارى متعالٍ؟ أم أنه الحقيقة القاسية التى يؤلمنا الاعتراف بها؟
وإذا استفز السؤال مشاعرك الوطنية فسلْ نفسك بكل صراحة: أيهما تفضل؟ أن تدار الأمور بطريقة جيدة على يد مستعمر أجنبى؟ أم تسوء الأمور فى ظل حكومة وطنية فاسدة مستبدة؟ وهل ينكر أحد أن أفريقيا لم تعرف المذابح العرقية إلا بعد رحيل المستعمر الأوربى؟!
■ ■ ■
ركبنى الهمّ فى نهاية الفيلم، حين انشطر الوطن إلى قسمين هندوسى (الهند) ومسلم (باكستان) بمجرد رحيل المستعمر. غاندى حاول بكل وسيلة أن يتجنّب التمزيق. بل عرض على محمد علىّ جناح أن يكون أول حاكم للهند المستقلة! طلب منه أيضًا أن يختار رئيسًا مسلمًا لكل مصلحة حكومية. لكن جناح قال له بكل وضوح إن الهندوس لا يملكون تسامح غاندى! وأيّد قول «جناح» الزعماء الهندوس قائلين إن تولى جناح حكم الهند يعنى ثورة هندوسية لا تبقى ولا تذر. وقتها لن تصبح الأقلية المسلمة آمنة على حياتها. وقد كان هذا النذير صحيحًا كل الصحة. غاندى نفسه قتله هندوسى متعصب بسبب تقاربه مع المسلمين!
■ ■ ■
وهكذا تمّ الانقسام. وهكذا افترق حلفاء الأمس وبدأ سفك الدماء! الإنسان كائن محيِّر فعلًا، لا تدرى هل تتعاطف معه أم تلعنه؟
ألم أقل لكم إنه لم يكن مجرد فيلم، بل عاصفة من المشاعر والأفكار والأسئلة المحرجة!.