من صالحنا أن يظل الأمر غيبا

قضية الإيمان بطبيعتها «غيْبيَّة». بمعنى أنك لو أردت أن تمسك شيئاً بيدك فلن تجده. لكنك لو نظرت بعين القلب ستجد كل شىء حاضراً. إن أول ما بدأت به سورة البقرة فى مطلع القرآن هو تقرير حقيقة «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ». فالقصة من أولها لآخرها غيب. وذلك سر تسامحه- تعالى- مع العصاة. إن الله يتقبَّل منا فى الدنيا الدرهم ويبارك لنا فيه «مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا». لكنَّ ليوم القيامة ميزاناً مختلفاً «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ». والفارق أن الغيب لم يعد غيباً، بل صار واقعاً يُعاش.
بل أكثر من هذا: كون المسألة الإيمانية كلها غيباً جعل المرء فى فسحة من السلامة. إذا كان القرآن يعطى الرسول نفسه احتمال الشك فيما أُرسل إليه «فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّ مِمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ». فالمنهى عنه ليس الشك الطبيعى الذى قد يغزو عقل أى واحد فينا، وإنما فى أن يتحول الشك إلى حالة مزمنة من المراء.
■ ■ ■
إن كون الإيمان غيباً هو أمر فى صالحنا دون أن ندرى. إن البعض منا يتمنى أن يرى «آية»، والآية معظم استخدامها فى القرآن بمعنى المعجزة الكونية التى تخرق قوانين الفيزياء. صديقى مثلاً تمنى أن يرى والده المتوفى فى الصالون ولو لخمس دقائق فقط، ويخبره بأن هناك جنة وناراً، بعدها سيستقيم تماماً. ولكن ماذا لو حدثت المعجزة فعلاً وتغلبت علينا دوافع الشر فى نفوسنا؟ إن حدوث المعجزة الخارقة إدانة كاملة لمن شهدها وميزان دقيق سيُحاسب به بعد ذلك. لقد طلبها الحواريون من المسيح عليه السلام مائدةً من السماء، فانظر كيف كان الرد مخيفاً ومزلزلاً: «قَالَ اللهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّى أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ».
عن نفسى لا أريد أن تنخرق لى قوانين الفيزياء، ثم أجد نفسى تحت طائلة هذا الوعيد الرهيب.
■ ■ ■
مشكلة الملحدين الذين لا يؤمنون بإله أنهم يريدون شيئاً يشاهدونه بأعينهم ويلمسونه بأيديهم. والقرآن المكى يمتلئ من أوله لآخره بطلبات المشركين التى قد تبدو للوهلة الأولى عادلة «وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا... الآيات». وفى كل مرة كان القرآن يجيب بالرفض. لاحظ أن النبى كان فى أعماق نفسه يتمنى من كل قلبه أن يستجيب الله ويُجرى على يديه المعجزة الخارقة ليؤمنوا ويُسلموا، حتى إن القرآن عاتبه فى النهاية واعتبر الرغبة فى حدوث المعجزة القاهرة جهلاً، حتى وإن كان هدفها هدايتهم! «وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِى الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِى السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ». خصوصاً أن سابق الخوارق مع الأنبياء الصادقين أثبتت أنها لم تدفع أحداً للإيمان إلا من قد آمن بالفعل «وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ».
■ ■ ■
والحقيقة أن رفض القرآن المتكرر بناء الإيمان على قاعدة الخوارق يبدو منطقياً بجدارة. فهَبْ أن ذلك حدث فى عهد النبى، ألن تطلب الأجيال اللاحقة الامتياز نفسه؟ ليست الأجيال اللاحقة فحسب، بل كل فرد على حدة، ويصير إذاً من حقنا جميعاً أن نطلب لقاء أبينا المتوفى فى الصالون.