ماذا فعلنا بقوتنا الناعمة؟

وصلتنى هذه الرسالة المثيرة للشجون للأستاذ «محمد غنيم».
■ ■ ■
كانت هناك ثلاث دعائم لقوة مصر الناعمة: الأزهر والجامعات والفن المصرى.
الأزهر كان قبلة العالم الإسلامية. من الطريف أن الماليزيين والإندونيسيين كانوا لا يفطرون فى رمضان إلا بعد سؤال السفير المصرى هناك عن موعد الإفطار الصحيح، لأنه- فى نظرهم- سفير الأزهر قبل أن يكون سفير مصر. وما أدراك ما الأزهر بالنسبة لهم. التسامح والسمو والاستنارة والعلم. لذلك لا عجب أن تحتفى بلادهم بمبعوثى الأزهر من الأئمة والمقرئين احتفاءً يفوق احتفاءهم بالملوك والرؤساء. وإذا ذهب شيخ الأزهر هناك كان الآسيويون يتدافعون حتى يحظوا بشرف رؤيته، فضلا عن مصافحته، وتلك هى أسمى الأمانى.
■ ■ ■
الجامعات المصرية كانت قبلة الشعوب العربية والإسلامية. وتخرج فيها رؤساء وملوك العالم العربى. كانت منارة العلم والعلماء. ولعل كثيرين لا يعلمون أن إيطاليا حاولت بكل السبل والإغراءات أن تثنى أهل الصومال-وقت احتلالها- عن السفر للدراسة بمصر عن طريق تقديم منح دراسية فى إيطاليا. إلا أن الصوماليين أبوا بشدة، وفضلوا إرسال أبنائهم إلى مصر للدراسة، فقد كانت مصر- بحق- قبلة الشرق بأسره!
■ ■ ■
أما الفن المصرى فحكايته حكاية. كان سفير مصر فى كل مكان، ولا عجب أن الرئيس التونسى الأسبق (الحبيب بورقيبة) كان يمتلك أكبر مكتبة غنائية لأم كلثوم. وأما عشق ملك المغرب الحسن الثانى للفن المصرى ودعواته المتكررة للفنانين المصريين فمعروف للكل. الفن المصرى الذى بلغ حدا من الشهرة والمجد والمكانة أن كانت الجاليات العربية فى أمريكا اللاتينية ترسل فى طلب الأفلام والحفلات الغنائية والمسرحيات المصرية وتدعو الفنانين والفنانات أن يقدموا عروضهم هناك، وكانت الإغراءات المادية كبيرة، والطلب كبيرا وبإلحاح على الفن المصرى فى كل مكان فى أقاصى المعمورة.
■ ■ ■
بالنسبة للأزهر صار يُهان الآن علنا. بالنسبة للجامعات نحن نعرف ترتيبنا العالمى المؤسف. بالنسبة للفن فقد تركنا فنانا فى قيمة وحجم إسماعيل ياسين يعانى العوز والفاقة فى أخريات حياته وتراكم الديون عليه وقيام مصلحة الضرائب ببيع عمارته التى بناها بعرقه وكفاحه، ولم تلتفت إليه الدولة إلا قبل وفاته بقليل، لتقرر له معاشا هزيلا لا يليق بقيمته بعد أن عجز عن سداد إيجار الشقة، ليموت كمدا بأزمة قلبية عن عمر يناهز الـ٦٠ عاما، تاركا وراءه ثروة فنية أسعدت الملايين، بينما مات هو حزينا وفقيرا ومهملا من الجميع!
■ ■ ■
كما تركنا ألفنان الكبير صلاح منصور صاحب الأدوار الرائعة والخالدة يتوسل إلى الرئيس السادات عند لقائه بالفنانين أن يوقّع له على طلب علاجه على نفقة الدولة، ولا يكتفى بوعد الرئيس له بل يقدم له الطلب ولا يدعه حتى يظفر بتأشيرة الرئيس بالموافقة على الطلب!
وتركنا فنانة عظيمة بقيمة ليلى مراد تعانى هى الأخرى العوز والحاجة وهى التى كانت يوما نجمة النجوم وسفيرة الفن المصرى وإحدى قوانا الناعمة العتيدة. ليلى مراد التى رفضت كل الإغراءات التى قدمتها لها إسرائيل لتعيش هناك وفضلت أن تعيش وتموت فى وطنها مصر.
■ ■ ■
زينات صدقى ماتت هى الأخرى فى فقر وعوز وهى التى قدمت أروع الأدوار الكوميدية! وكذلك رفيق الدرب عبدالفتاح القصرى. أمموا شركة الفنان العظيم «محمد فوزى» وتركوا شركة أصدقائهم «عبدالوهاب وعبدالحليم»، ليموت شاعرا بالظلم عن عمر ٤٨ عاما. والعجيب أن يُكرم فى الجزائر ويُقام هناك معهد للفنون باسمه، بينما بلده القاسى لم يفعلها.
■ ■ ■
أين ذهبت «قوة مصر الناعمة»؟ ببساطة نحن قتلناها.