"هبة" التي أصبحت "تماضر"

وهذه قصة طريفة أخرى، ولكنها محزنة من «د. تماضر محمود أبوكيلة».
■ ■ ■
«أنت مش هبة. أنت تماضر!
اسمك مش هبة. اسمك تماضر عند الحكومة».
تخيلوا معى طفلة فى السادسة من عمرها يُقال لها ذلك! ما هذه المفاجأة الكبيرة على استيعابى؟ لماذا بقيت طوال الفترة الماضية، التى هى عمرى كله، هبة بينما أنا «تماضر»؟!
وما الذى يضمن لى ألا يأتى أحد مستقبلا ليعلمنى أننى «مديحة» أو حتى «ثروت»؟
كل ذلك الجدال حدث ليلة الذهاب إلى المدرسة. حاولت ستى أن تقنعنى ليلا بتقبل اسمى. قالت: «اسمك حلو وغريب ومفيش حد اسمه كده غيرك».
■ ■ ■
يأتى الصباح سريعا وتقوم أمى الحبيبة بتمشيط شعرى، وإبدال ثيابى. وطبعا فوق مريلة المدرسة ثلاث طبقات أخرى من الملابس حتى لا أمرض!.
نخرج سويا وقد حصلت أخيرا على الحقيبة الخاصة بى، وفيها ما تشتهيه نفسى من أدوات مدرسية، وكأننى سأستخدمها فى يومى الدراسى الأول! أقلام ومساطر وكراسة رسم. وخلسة دسست البرجل الخاص بأختى الكبرى.
رباه! ما هذا الذى أرى؟ ما هذه الجموع الغفيرة من الأطفال والأمهات الذين يتزاحمون على أبواب الفصل. انفتح الباب وتدافع الجموع للحاق بسباق الفوز بالمقاعد الأمامية أمام السبورة! أبحث عن أمى فأجدها قد جلست فى المقعد الأوسط من الصف الأول أمام السبورة مباشرة! أمى لا تضيع الوقت. لقد اختارت أيضا بنتين هادئتين لتكونا رفيقتى المقعد.
ما هى إلا لحظات ودخل الفصل المعلم، آمرا أولياء الأمور بالخروج. يتعالى البكاء والصيحات وتجرى إحدى رفيقاتى بين المقاعد لتمسك فى أمها فينهرها ويجلسها بالقوة.
لن أنسى ما حييت نظرة أمى الغالية لى وهى تودعنى عند الباب، وتعطينى كيسا مليئا بالحلوى التى تروق لى بكل أشكالها، وبعض (الملبس والشيكولاتة)، نسيت بالطبع البكاء ورحت أتحسس كيس الحلوى.
■ ■ ■
خرجت الأمهات من الفصل فلم يتوقف الأطفال عن النحيب. قال المعلم فى إغراء فى محاولة لعدم إزعاجه بغنائنا: «سأعلمكم نشيدا جميلا.. قولوا ورايا:
الفيل أبو زلومة/ عامل لحبيبته عزومة.
جاب لها لحمة مفرومة.. هم هم هم هم.
وبأعلى صوت لدينا رحنا نردد النشيد وقد انقلب حالنا ودمعت عيوننا لكن هذه المرة من الضحك.
■ ■ ■
يا ليت الأمر انتهى عند هذا الحد. كانت لتصبح ذكرى جميلة لولا ما فعله المعلم.
والحكاية أننى كنت أبحث عن (البراية) الخاصة بى، وكان لونها أحمر، فإذا بى ألمحها فى يد رفيقتى.. تعجبت.. كيف تجرأت وأخذتها من الحقيبة؟ أهذا هو اختيارك لى يا أمى؟ جلبت لى لصة صغيرة!.
لم أستطع السكوت، أخبرت المعلم الذى سألها فأنكرت بشدة، أنا الأخرى أقسمت أنها خاصتى، وانفجرت من البكاء خوفا من غضب أمى حين تعلم أننى أضعت أدواتى فى أول يوم للمدرسة، ومع البكاء سال أنفى فأخرجت منديلى من جيبى فإذا بصوت البراية ترن بجوار قدمى، لأكتشف أنها كانت فى جيبى. وبدأت أقسم للمعلم أننى لم أكن أعلم، لكنى سمعت صوت (قلم) يرن على خدى الشمال، والمعلم يقول لى فى ازدراء: «اخرسى يا كذابة، بتحلفى بالله كذب».
■ ■ ■
عندما أيقظتنى جدتى فى صباح اليوم التالى وجدت فراشى مبللا. عندما حكيت ما فعله المعلم انفعلت أمى، وواجهته: «كيف تضرب ابنتى بالقلم؟». المذهل أنه أنكر وأقسم أنه لم يفعل.. فصعقت لما سمعت، وفقدت احترامى لهذا الشخص للأبد.

وإلى الآن لم أسامحه على ذلك القلم، وعلى القسم الكاذب أيضا.