هؤلاء النبلاء

لعل هتشكوك لم يتعمد فى فيلمه «إنى أعترف» أن يستنسخ الشخصية النبيلة التى رسم ملامحها «سومرست موم» فى روايته الرائعة «حد الموسى»، التى أثرت كثيرا فى وجدانى أثناء فترة مراهقتى.
ما الذى دفعنى إلى تلك المقاربة؟ الإجابة: استدعاء ملامح النبلاء فى أبطال الروايتين: «حد الموسى»، و«إنى أعترف».
■ ■ ■
أعرفهم. أنا أعرف هؤلاء النبلاء. هذه النوعية النادرة من البشر، مبثوثون فى كل مكان. لا يهم مكان الولادة ولا لون البشرة، المهم نقاء القلب. ملامحهم قريبة من بعضهم البعض مثلما قلوبهم! ذلك الجبين العالى النبيل. والعينان الصافيتان المعذبتان. والشفاه الرقيقة المرهفة. والحزن الساكن فى عيونهم. وذلك الطريق الصعب الذى يسلكونه بعد أن تفشل قصة الحب الوحيدة التى افترشت قلوبهم.
اسمعونى، فسوف أحكى لكم بعضا من عذاب النبلاء.
■ ■ ■
فلنبدأ بالكاهن النبيل فى فيلم «إنى أعترف». لم يكن أكثر من فتى مقبل على الحياة، لا يعرف شيئا من تصاريف الحياة وتكاليفها، حين وقع فى غرام ابنة الجيران. البداية المألوفة لاشتعال شرارة الحب بين كل قلبين ناداهما الربيع. لكن الغرام لم يجعله يتقاعس عن خدمة العلم والانخراط فى الحرب العالمية استجابة لدافع الوطنية. وبقدر المشاعر المشتعلة بينهما يكون ألم الفراق.
تنقطع أخباره فى الحرب، وتمتلئ العاشقة بالألم. لكن النساء- كما نعلم جميعا- يمتلكن حسا عمليا حتى لو كانت عاشقة! لذلك تتزوج، تمنح زوجها جسدها عن طيب خاطر، أما القلب، فقد صار ملكا للأبد للعاشق الذى انقطعت أخباره.
■ ■ ■
القصة متشابهة فى رواية «حد الموسى» فيما عدا أنه لا توجد جريمة قتل. لكن السمات النفسية متشابهة وربما واحدة. الربيع حين يأتى فى أوانه، فيسبقه عبير الورد، يتسرب عبر الأثير، لا تستنشقه إلا القلوب فى عمر الربيع. يقولها بأفصح لسان: «هذا أوان الحب، فأحبوا واسعدوا».
وهكذا تنشب قصة الحب المحتومة بين هذا الشاب النبيل وتلك الفتاة. ثم ينشب نداء الحرب العالمية، فيتطوع كعادة الشباب الممتلئين بالإخلاص وتودعه الفتاة باكية. تنقطع أخباره وتتزوج الفتاة.
■ ■ ■
الشخصيات متشابهة، أليس كذلك؟ لكن التشابه الأكبر يكون عند انتهاء الحرب وعودتهما ليجدا الحبيبة قد تزوجت، فيقرر كلاهما الانسحاب من الحياة: بطل فيلم هتشكوك يعتزل العالم الصاخب باحثا عن سلامه الروحى، ويتحول إلى كاهن بالكنيسة. أما بطل رواية «حد الموسى»، فإنه يبدأ رحلة السندباد الكبرى، باحثا عن معنى لهذه الحياة.
■ ■ ■
لكنهم فى كل أحوالهم نبلاء! الكاهن يرفض إفشاء سر الاعتراف بأن خادم الكنيسة هو القاتل برغم أنه دس الثياب الملطخة بالدم فى خزانته ليلف حبل المشنقة حول عنقه! وبطل رواية «حد الموسى» تعالى عن كل مغريات الحياة التى تفتن الرجل العادى، وجوّب الأرض من مشرقها لمغربها باحثا عن الحكمة، وفى الحقيقة كان باحثا عن الله.
كلاهما كان لطيف المعشر، يدخل القلوب بسهولة، وخصوصا النساء اللواتى لا يقابلن هذا الطراز النادر من الرجال إلا نادرا. حياتهن غالبا بين الرعاع من الرجال، ولذلك فقد كن يتدلهن فى حبه، لولا أن الرجل النبيل يعفّ عن الخيانة.
■ ■ ■
هذه النوعية من النبلاء لا يتزوجون غالبا، أو هكذا تخبرنا الروايات. قلوبهم الهشة غالبا ما تكون ضحية لقصة حب لم تكتمل. هم موجودون حتى الآن! صدقونى. فلقد أتيح لى أن أراهم، وأعرفهم.