إني أعترف

ثلاثة أسباب تدفعني لكتابة هذا المقال:
الأول: لأنه عن فيلم غير مشهور لمخرجي المفضل هتشكوك.
الثاني: لأنه يتناول طقس الاعتراف في الديانة المسيحية.
أما السبب الثالث: فلأنه في جزء منه مرتبط بالنظام القضائي القائم على هيئة المحلفين، والذي لطالما حيرني.
...............
فلنبدأ بالسبب الأول. العثور على فيلم لم أشاهده لهتشكوك أمر يملؤني سعادة. برغم أنني أعرف بالضرورة أنه ليس الأشهر والأفضل. الفيلم (إني أعترف I confess) تم إخراجه عام ١٩٥٣، ويدور في إطار التشويق المميز لفن هتشكوك. حيث تبدأ أولى لقطاته في كنيسة، حيث يعترف خادم الكنيسة وهو في حالة انهيار تام للكاهن الشاب أنه قد أرتكب للتو جريمة قتل بعد أن أرتدى رداء الكهان لكي يبعد الشكوك عن نفسه. نعرف من الحوار أنه لاجئ ألماني عطف عليه الكاهن الشاب وأواه في الكنيسة. نعرف أيضا أنه يعاني من فقر مزمن، وكان يقصد أن يقوم بالسرقة لولا أن فاجئه المحامي الثري فقتله.
يتلقى الكاهن طقس الاعتراف في أسف شديد، ثم يذهب الخادم ليوقظ زوجته، وقد بدا أنه تخفف –بالاعتراف- من وطأة الوهن النفسي.
..............
الاعتراف طقس بديع. وإن كنت لا أستسيغ فكرة أن يغفر إنسان لإنسان بالنيابة عن الله عز وجل. لكن الاعتراف –بدون غفران- أراه يلبي احتياجا عميقا للإنسان من أجل تفريغ الصديد في روحه من آن لآخر. لا شك أنه من المفيد للنفس أن يتخفف من وطأة الشعور بالإثم. ولشد ما أتمنى لو أتيح لي الحديث مع كاهن اعتراف. فلقد أتيح له أن يلقي نظرة على الأماكن العميقة غير المسموح برؤيتها في النفس البشرية.
بالنسبة للفيلم، فإن عقدته هو أن الكاهن النبيل الذي تلقى الاعتراف سوف يصبح هو المتهم بالقتل. إذ سرعان ما ستتضح وجود دافع للقتل بالنسبة لهذا الكاهن البريء. إذ أن هذا المحامي القتيل كان شاهدا على قصة حب بين هذا الكاهن قبل انخراطه في سلك الرهبنة وبين امرأة متزوجة. وخادم الكنيسة يدس ثوبه الملطخ بالدماء في خزانة البريء ليُلقى عليه القبض وتبدأ المحاكمة.
...............
هيئة المحلفين التي تقرر إن كان المتهم مذنبا أم لا تثير حيرتي دائما. أعرف أن هذا النظام مطبق في أهم الديمقراطيات الغربية. ولا شك أن لديهم منطقا في تطبيقه، وإن كنت لا أفهمه. إذ كيف أهضم أن يتم الاختيار العشوائي بين أفراد من عامة الشعب، دون أي دراسة قانونية متخصصة، تجعل رأيهم -في كون هذا المتهم بريئا أم مذنبا- جديرا بالاحترام، برغم أن المنطق يقول إنه من السهل جدا التلاعب بهم من قبل المحامين والتأثير عليهم!
أم أن هذه الشعوب قد بلغت من الرقي الحضاري ما يجعلها جديرة بأن تحمل هذا العبء؟ بالفعل لا أدري. لكني واثق أن تطبيق مثل هذا النظام القضائي العجيب في بلادنا سيكون بمثابة كارثة، بالنظر إلى أننا لم ندرس قط في مدارسنا مناهج التفكير النقدي العلمي. والذي تشربته الشعوب المتحضرة حتى صار بمثابة طبيعة ثانية فيها. أما حكامنا- لا سامحهم الله- فإن آخر ما يفكرون فيه هو الارتقاء بعقول الشعوب التي تحكمها، لأن في هذا الارتقاء نهايتها.
...............

الفيلم شيّق فعلا برغم أنه غير مشهور، ويأخذ بأنفاسك فلا تستطيع أن تتركه. وقد تعمدت ألّا أذكر النهاية حتى لا أفسده على من يرغبون في مشاهدته.