المال الذى أذل أعناق الجميع

الفيلم من علامات السينما العالمية. اسمه عجيب نوعا Glengarry Glen Ross
الفيلم يتحدث عن مندوبى المبيعات، وسعيهم المحموم نحو بيع أشياء لا حاجة بها لمفلسين. هذا أو يتم طردهم من الشركة كى يموتوا جوعا.
■ ■ ■
كل هذه الأضواء اللامعة، كل هذه الأصوات الناعمة، كل هذه المدن! المصانع! السيارات! الطائرات! البيوت الفارهة، كل هذه القشرة من الحضارة تنحسر عن الحقيقة العارية: «أعطنى مالا وإلا سأتضور جوعا»!
الفيلم قام ببطولته حشد من نجوم هوليوود. لكن «جاك ليمون» أدى دور عمره، خصوصا عندما حدث هذا الحوار العجيب.
كان مندوبو المبيعات يهاتفون الزبائن ويرتبون لصفقاتهم القادمة. صحيح أنها تفشل غالبا. صحيح أن زبائنهم لا يملكون إلا الكفاف. صحيح أن بضاعتهم فى أغلب الأحوال رديئة، وإلا لما احتاجوا لحشد وسائل الإقناع لتوريط الزبون. لكن العمل عمل فى النهاية، ولا بد أن يقوم به أحد.
فجأة دخل عليهم رجل متأنق يمثل الإدارة قائلا لهم: «أنا فى مهمة نبيلة. الخبر الجيد أنكم مطرودون. الخبر السيئ أن أمامكم أسبوعا واحدا لاستعادة وظائفكم. أنتم لا تبيعون شيئا أيها البهائم. ابذلوا قصارى جهدكم لأنكم ستخسرون وظائفكم. لأنه فى هذه الحياة شيء واحد مُعتبر وهو أن تبيعوا ما كُلفتم ببيعه. هل غضبتم من هذه الإهانات؟ أنا لا أبالي! سيارتى BMV كلفتنى تسعين ألف دولار بينما تركبون الهيواندى (كم هم مضحكون حين تكون السيارة الهواندى مقياسهم للفقر؟ إذا ما نفعل نحن المصريون؟ ننتحر؟!).
هل أنت أب جيد؟ هل تحب أطفالك؟ أنا لا أبالى! تبا لك اذهب لتلعب معهم. هل تعتقد أننى أسيء معاملتك؟ هل لا يمكنك أن تتقبل إهاناتى؟ كيف لا تقبلها وأنت ما زلت جالسا على مقعدك؟ إن كنت لا تحبها ارحل. اعملوا بجد أيها الأوغاد».
غصت فى مقعدى وأنا أسمع هذا الحوار المريع. هل هذه أمريكا؟ أرض الفرص؟ بلاد العسل واللبن؟ إذا كان الأمر كذلك فمن حسن الحظ أننى لم أهاجر هناك! الرأسمالية المتوحشة التى لا تهتز منها شعرة لأطفالك، ولا تبالى بمصيرك إن لم تحقق لهم المطلوب.
وتذكرت فى هذه اللحظة قانون الخدمة المدنية الذين يريدون تمريره. أعرف جيدا أنه قانون فى صالح التطور، والتطور قانون طبيعى يعمل فى صالح القوى ولا يبالى بالضعيف. ولكن من قال إننى أريد التطور الذى يسحقنى ويسحق أمثالى من الضعفاء؟ لقد اكتسبنا فى عهود الاشتراكية الناصرية حقوقا للموظف، الطرف الضعيف فى المعادلة، هى وإن كانت قليلة فإنها تكفل له على الأقل ألا يموت من الجوع.
■ ■ ■
«الفلوس مش مهمة». هكذا خاطبتنا السينما المصرية حين راحت تصور لنا أن حياة الفقراء سعيدة بينما أتعس البشر هم الأغنياء! هذا كله هراء. الفيلم وضعنى أمام أسوأ مخاوفى. وقلت لنفسى فى لحظة صدق: «بل النقود مهمة جدا. والناس كلها لا تعمل، بما فيهم أنا، إلا من أجل النقود. وأسوأ كوابيسنا هو الفقر وعدم الأمان».
صحيح أن المال لا يغنى عن باقى النعم مثل الصحة والتراحم، لكن بدونه لا نستطيع العيش أيضا. وأنا لا أريد أن أعيش تحت المقصلة. وكنت آمل أن أقضى ما تبقى من عمرى تحت عناية ما تبقى من ضمانات الاشتراكية. ولكن يبدو أن العولمة قادمة لا محالة، ومعها قانون الخدمة المدنية الذى سيجعلنا تحت حد السكين.