رسالة من حائر

وصلتنى هذه الرسالة من أحد السادة القراء طلب منى حجب اسمه. تقول الرسالة:

«الإسلام جاء شاملا كاملاً لتنظيم شؤون حياتنا الدينية والدنيوية». هكذا يقولون! إذا لماذا لم يحدد الله فى القرآن ضوابط قطعية الدﻻلة تحدد قواعد الوصول للحكم وممارسته وكيفية الخروج منه؟ حيث إنه من المعلوم حالياً أن كارثة هذه الأمة من بعد وفاة الرسول مباشرة، وحتى اليوم بسبب الصراع على الحكم. ومن أجله وبسببه حرص الحكام على إبقاء الشعوب جاهلة فقيرة ووصل الأمر إلى الخيانة والاتفاق مع الأعداء والحرص المستمر على تجريف المجال العام والقضاء على البديل عبر التهميش والاغتيال المعنوى أو المادى لأى شخصية مهمة ذات شعبية (قصة الخليفة الأموى مع موسى بن نصير ومحمد القاسم كمثال). بل أكثر من ذلك تم العبث فى أصول الدين ومقاصده وتبنى تفسيرات ضالة للدين حولته من رافعة للأمة إلى سبب من أسباب التخلف والتأخر. كما تم إهلاك الحرث والنسل وإشاعة جو من القهر والرعب والنفاق. كل ذلك فى رأيى بسبب عدم حسم مسألة الوصول للحكم وممارسته والخروج منه.

عندما نقرأ آيات الوراثة نجد الآيات قطعية الدﻻلة وﻻ يمكن الاختلاف على معناها ومقصدها. ألم تكن الأمة أحوج لآيات مثل هذه تنظم أصول الحكم بكلمات قاطعة؟ كمثل أﻻ يستمر أى حاكم أكثر من عشر سنوات وألا يخلفه أى من أقاربه وﻻ يشاركوه فى المناصب الكبرى مع فصل تام وواضح للسلطات، وغيرها من الترتيبات التى ما إن وصلت لها الحضارة الإنسانية وطبقتها حتى أصبحت كما نرى. أتخيل كيف أن المسلمين الأوائل بعد الرسول بتقواهم وحسن التزامهم سيطبقونها - مثلما فعل الآباء المؤسسون فى أمريكا ونجحوا مع شعب من المجرمين وشذاذ الآفاق- ويصبح هذا هو التقليد الذى تسير عليه الأمة ﻻ يمكن لأحد أن يحيد عنها، ولم نكن سنسمع بعد وفاة الرسول أشياء مثل «منا أمير ومنكم أمير» أو «هذا ثوب ألبسنى الله إياه»، وغيرها مما جلب الوبال علينا إلى اليوم.

أعلم أن عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز وغيرهما القليل قدموا نماذج متقدمة لكل ذلك لكنه كان اجتهادا شخصيا مات عندما ماتوا. كما أعلم أن هناك عشرات الآيات فى القرآن توجب العدل والشورى والإحسان ولكنها آيات مجملة عمومية لم تحدد آليات ولم تلزم قواعد ولم تفصل ذلك التفصيل القاطع فى آيات الوراثة. 

■ ■ ■

أقول للقارئ أولا: إنه- برغم التساؤلات الحائرة- توجد روح إيمانية واضحة، فهى الحيرة التى تؤدى لمزيد من الإيمان إن شاء الله. دليل ذلك أنه عاجلنى برسالة يطلب منى التريث فى النشر، خشية أن يصدر حيرته لغيره فيبوء بالإثم. ويطلب من الله أن يرزقه إيمانا كإيمان العوام.

ثانيا: أعده أن ردى سيكون عقلانيا فقط. لن أعمد إلى الابتزاز العاطفى. ولن (أشتغله) ولا أقبل على نفسى أن أكون (رفا). ولا الإسلام بحاجة إلى من يعمل (رفا). وإذا كان هناك سؤال لا أستطيع إجابته فسأعلن ذلك بمنتهى البساطة. إنه المنطق، والمنطق فقط.

ثالثا وأهم شىء: إننى أعبر عن نفسى فقط. ولست الناطق المعتمد للإسلام.

■ ■ ■

غدا إن شاء الله أنشر الرد الذى أتمنى أن يريح السائل ويريح معه كل الحيارى، سائلا المولى عز وجل أن يهدى عقولنا وينير قلوبنا ويرزقنا برد اليقين وراحة التسليم.


.................................................

بالأمس، نشرت رسالة من حائرٍ، أدهشه أن القرآن لم يتعرض تفصيلا لمسألة تولِى الحكم، ومدته، وكيفية الخروج منه. والآن مع الرد:
■ ■ ■
يقول القارئ الكريم: «الإسلام جاء شاملا، كاملاً، لتنظيم شؤون حياتنا الدينية والدنيوية». والحقيقة أن فى نفسى شيئا من هذه الجملة. مرارا وتكرارا، نبهت إلى شىء خطير جدا، يحدث طيلة الوقت فى زماننا، أننا بحسن نية نُحمّل الإسلام ما لم يحمله، ونقوّل القرآن ما لم يقله. ألم ترَ الدعاة المتحمسين الذين يبالغون فى وعود السعادة لمستمعيهم، إذا اتبعوا طريق الهدى (برغم أن القرآن لم يتعهد بذلك قط)، فإذا واجهتهم المصائب (كفقد الأولاد والأموال) نكصوا على أعقابهم، وقالوا أنى ذلك؟!
ألم ترَ وعود النصر التى قيلت فى كل موضع يحارب فيه المسلمون؟ (والإسلام لم يتعهد بذلك قط)، فإذا وقعت الهزيمة، قالوا أنى هذا؟ (حدث ذلك فى حياة الرسول بمعركة أحد).
ألم ترَ العصمة المزعومة لمجتمع الصحابة (والقرآن لم يرتب العصمة لبشر)، فإذا قرأ الناس أحداث الفتنة، بُهتوا من الدهشة، وقالوا أنى هذا؟ّ
■ ■ ■
مشكلتك، يا قارئى الكريم، فى فهم هذه الجملة وتحميلها أكثر مما تحتمل: «الإسلام جاء شاملا كاملاً لتنظيم شؤون حياتنا الدينية والدنيوية». هذا معناه أن القرآن سيتدخل بمعجزة قهرية لإصلاح جميع الفاسد من أمورنا، فلماذا يوم القيامة إذاً؟ فى الحقيقة، إننى أرى الأمور بشكل أبسط: أرى القرآن نزل- فى المقام الأول- من أجل التوحيد. من أجل أن يسد نقصا حقيقيا مُلحا فى تصور البشر للذات الإلهية. الله العظيم، العليم بأحوال خلقه، الأول والآخر والظاهر والباطن. قريب المغفرة وشديد العقاب. هذه صفات لم يكتمل فهمها إلا بالقرآن الكريم.
■ ■ ■
ما أعظم هدية الإسلام للبشرية. الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد. أنت قرأت القرآن جيدا، وتعرف أنه فى حقيقته عبارة عن ترنيمة مجد للذات الإلهية. هذا فى اعتقادى ما نزل القرآن من أجله. فنزل القرآن ليهدى البشرية الصورة المتكاملة للإله الواحد. ويصحح المفاهيم. يربط الكون الذى نراه، الشمس والقمر والأرض والزرع، بالإله المتعالى برابطة الحب والعبودية، خلاصتها الآية الكريمة (أتينا طائعين).
■ ■ ■
لماذا لم يحدد القرآن فترة الحكم بعشر سنين؟ ولماذا لا تكون خمسا؟ ولماذا ليست ثمانىَ؟ ولماذا ليست عشرين؟ أستطيع أن أذكر لك مائة سؤال افتراضى فى كل تفصيلة. لأن هذا لم يكن هدف القرآن من الأصل. وبفرض أنه ذكره لم يكن ليحقق الهدف المنشود، بما أننا جميعا، أنا وأنت ونحن، نخالف القرآن. ليس الحكم فحسب، بل أبسط الوصايا الأخلاقية (هل تعمل بها يا صديقى؟).
هدف القرآن كان أن يعرفنا بخالقنا (وقد عرفناه)، وهدفه أن يرشدنا إلى الوصايا الأخلاقية (وقد فعل). وكلنا نميز الحق من الباطل والخير من الشر، والخطأ من الصواب. ونعرف مبادئ الحكم الرشيد السديد الذى يتناغم مع ما يدعو إليه القرآن. والقرآن ليست وظيفته أن يقوم علينا حارسا، بل هامسا بكلمة التوحيد ومكارم الأخلاق.
■ ■ ■
لا أعتقد أن القرآن مسؤول عن تدهور أحوالنا لسكوته عن بعض التشريعات التى تقترحها أنت (وربما يقترح غيرك عكسها). كلنا نعرف طريق الحق، ولكن الشهوات هى التى تمنعنا، وحب الدنيا (ألا تحبها يا صديقى؟). بذمتكم، مين فينا ينفذ الحق الصارخ الذى جاء به القرآن؟ حتى فى الأمور البسيطة لا نفعل، فهل كنت تتوقع أن يطيعه الحكام؟!