قصص قصيرة جدا

وصلتنى من الدكتور «مدحت عبد السميع» هاتان القصتان الجميلتان.
■ ■ ■
«1- ذهب.
انكفأ العصفور يلتقط حبات قمحه الذهبية، بادية عليه النعمة، كذلك كانت وليفته.
اعتادا حياة رغدة لا شقاء فيها.
وبرغم طول البقاء داخل القفص المترف إلا أن ألمًا غامضًا كان ينتابهما.
ما إن يرفع أحدهما رأسه وتختفى من مقلتيه لمعة القمح المذهب والقضبان المذهبة، حتى تخطف لبه خيوط السماء الزرقاء، يتذكران أيامًا كانت لا حدود فيها لأجنحتهما إلا الأفق.
لم يكونا نسرين، ولم يتطلعا أبدًا لذلك، لكن عذوبة مذاق الهواء على جناحيهما كانت ترضيهما، تمامًا كعذوبته على أجنحة النسور. وأكثر.
فقط هى هذه اللحظات التى عندها كان يستشعر فى جناحيه هذا الألم الغامض، والذى ما يلبث أن يتسرب إلى أعماق قلبه.
عدة مراتٍ، وبعدما اختبر الشبع حاول الطيران، لكن القضبان الذهبية - مهما تَزَيَّنت الأقفاص واتسعت- كانت ترتطم بجناحيه فتؤذيه. كان ذكيًا، علَّمَهُ تكرار الأذى أن يكف عن المحاولة، وَطَّنَ رأسه على طول الانكفاء ليتفادى زرقة السماء المؤلمة، حتى نظرة العتاب أو الرجاء المؤلم فى عين وليفته دَرَّب قلبه على احتمالها.
لكن ما كان فوق قدرة قلبه الصغير على الاحتمال هو ذاك الألم الجديد الذى اختبره حين شرع يرقب وليده فى قفص مجاور وهو منكفئ. لا يرفع رأسه عن الحبات الذهبية. لم تشغله أبدًا زرقة السماوات.
على أن ما فاق عجز قلبه القديم على احتمال الألم، كان عجز عقله عن فهم سر سكون صغيره وقد انفتح باب قفصه.. بينما الصغير لم يفكر حتى أن يحرك جناحا!
■ ■ ■
2- رحلة الصمت
لا يذكران تحديدا متى أو كيف بدأت رحلة الصمت! اعتادا السكوت. وعندما شعرا بالحنين للحديث وحاولا الكلام كانت الصدمة! لقد نسيا المفردات! لم يَدُرْ بخُلدِهِما أبدا أن الأبجدية يُمكن أن تُنْسَى! شرعا فى البحث عن وسيلة لمحو أمية المشاعر!!
ما زال البحث جاريا، وكذلك الصمت!».
■ ■ ■
ووصلتنى أيضا من العميد د. أيمن حسن تلك اللقطة الرائعة:
3- لوحة
عام ١٩٨٣
فى هذا العام مرض أبى مرضا شديدا ألزمه الفراش. مرضا من ذلك الذى يطلقون عليه «مرض موت»! وجاء على أثر ذلك لزيارته مجموعة من أصدقائه الأصحاء، الأقل منه عمرا والأكثر منه قوة وشبابا. والتفوا حوله وهو ممدد على فراشه، يضحكونه ويسلونه، وقد خارت قوته ووهن صوته.
فى عام ١٩٩٠ لم يكن قد بقى على وجه الأرض منهم أحد.. باستثناء أبى!! وباستثناء أيضا هذه اللوحة التى انطبعت فى ذاكرتى وتأبى أن تغادرنى.
■ ■ ■
مسك الختام مع د. وئام فريد الذى أهدانا هذه القصة الواقعية المؤلمة:
4- العبيط
أطباء الجراحة يعرفون جيدا ماذا يعنى «السنيور» بالنسبة لطبيب مبتدئ، خصوصا لو كان يكبرك بعشرة أعوام، وكان جراحا موهوبا بالفطرة.
كنا نحبه جميعا. فى النوبتجيات كانت استشارته دائما مفيدة. تعليماته بسيطة وواضحة وفى الصميم. ومروره الصباحى أشبه بوجبة علمية دسمة. وفى غرفة العمليات يعلمك أسرار الجراحة!
تعلمت منه كيف تتحمل مسؤولية قرارك؟ كيف تحترم المريض وتغطيه قبل الكشف! كيف تبتسم فى وجهه مهما كنت مجهدا!
وكان المرضى يتعجبون لأنه لا يطلب مقابلا تحت «الترابيزة» للعمليات التى يجريها فى التأمين الصحى!
■ ■ ■
فى أحد الأيام ذهبت إليه فى عيادة التأمين مع أحد أقاربى وجلسنا بين المرضى ننتظر دورنا. وسمعنا مريضا يسأل الجالس بجانبه عن اسم الطبيب فأجابه: «ده الدكتور العبيط اللى ما بياخدش فلوس عشان يعمل الجراحات فى التأمين». فقال الآخر بتلقائية: «خلاص. عرفته».