غبار الأمنيات المزيفة

هل تذكر صديقك المقرب فى المرحلة الابتدائية؟ الإعدادية؟ الثانوية؟ الجامعية؟ قبل العمل؟ بعد العمل؟ الفتاة التى أحببتها وقطعت معها الطريق يوما؟ هل للأحبة القدامى الآن وجود فى عالمك أم تراك استغنيت عنهم؟
لم أكن أتصور أن يثير هذا الفيلم داخلى كل هذه الشجون! إنه قصة أشيائنا الثمينة، حين تسقط منا وحين نركض خلف الحلم الملون. الناس الذين أحبونا وأحببناهم، فى مرحلة ما فى حياتنا، ثم ضيعناهم فى زحمة السفر.
حفلة عيد ميلاد «جنا»، فتاة الثالثة عشرة، التى لا تحظى بشعبية فى المدرسة، وتتعجل الأيام كى تمر بسرعة وتنال حظها من الأنوثة والجمال. «مات» وحده هو الذى يراها جميلة. جارها فى المنزل المجاور وزميلها فى نفس الصف، الذى يحوطها بالحب والعناية ويتعقب أمانيها الصغيرة. كهدية عيد ميلاد، يصنع لها بيت أحلام مصغرا. الغرف كما تحلم بها بالضبط، حتى مطربها المفضل وضعه فى البيت، ووضع نفسه أيضاً كى يمنعه من مغازلتها. ثم نثر «غبار الأمنيات» السحرى فوق البيت لتتحقق كل أحلامها.
كل هذا الحب العفيف، الذى يلمس القلب، لم تبال به «جنا» وقتها. إنه «مات» البدين الذى تسخر منه البنات، ولا يُقارن «كريس غراندى» فاتن البنات فى المدرسة. يقولون إن زهدك فى راغب فيك نقصان حظ. من المؤسف أننا لا نفطن فى الوقت المناسب إلى أشيائنا الثمينة الحقيقية. من المحزن أننا نعاملها بإهمال وقسوة غير مدركين أنها- بطبيعتها- لا تُعوض.
كل هذا لم تدركه «جنا» وقتها. كل ما كانت تحلم به أن يُعجب بها «كريس غراندى» ويلحق بها فى خزانة الثياب ويقبلها كما وعدها. لكن ينصرف فى قسوة مخبرا «مات» المسكين أن «جنا» تنتظره. أغمضت «جنا» عينيها فى انتظار قبلة «كريس»، وحين فتحت عينيها وجدت «مات» أمامها. عاملته بقسوة أنثى جريحة. دفعته فى صدره، وحطمت بيت الأحلام على رأسه وطردته من بيتها. ارتسمت الصدمة المريرة وعدم الفهم على وجهه الطفولى البرىء. انصرف وقد انكسر فيه شىء إلى الأبد.
أما «جنا» فقد قرفصت داخل خزانة الثياب، وراحت تنثر «غبار الأمنيات» فوق رأسها، وتبكى بمرارة. وشرعت تتمنى أن تصبح امرأة فى الثلاثين ناجحة فاتنة مغرية. لم تكن تدرى أنه غبار سحرى، وأن الأمنيات على وشك أن تتحقق. كانت مغمضة العينين ولذلك لم تر الغبار المنثور وهو يتحول إلى نجوم متلألئة بالفتنة والجمال والألوان المتألقة المتعاقبة. وحين فتحت عينيها وجدت نفسها امرأة فى الثلاثين، حافلة بالفتنة والأنوثة.
كان عليها أن تستوعب الصدمة. كان عليها أن تكتشف حياتها الجديدة. كل ما حدث بين الثالثة عشرة والثلاثين لا تدرى عنه شيئا. كل ما تعرفه أنها فى داخلها بنت الثالثة عشرة. لقد تغير العالم من حولها، وتحتاج إلى نقطة بدء. أرض ثابتة تخطو عليها. وقتها لم تفكر سوى فى «مات»، رمز الثقة فى عالمها.
كان «مات» قد أصبح الآن رجلا فى الثلاثين، ممشوق القوام، بالغ الوسامة. لكن هذه لم تكن المفاجأة الوحيدة. الأغرب أنه استقبلها فى تحفظ شديد وكأنها لم تكن يوما صديقته المقربة. بالنسبة إليه لقد عادت «جنا» من الماضى، أما بالنسبة إليها فقد كان كل شىء طازجا وكأنه قد حدث بالأمس. والحقيقة أنه قد حدث بالأمس فعلاً.
حاولت «جنا» أن تعرف ماذا حدث لها بين الثالثة عشرة والثلاثين. لكن «مات» أخبرها أنه لا يعرف عنها شيئاً منذ المرحلة الثانوية. لقد افترقا بعد أن طردته من منزلها. وانتظر لوقت طويل أن تعتذر لكنها لم تفعل. ثم ذهب كل منهما فى طريق مختلف.
وبدأت «جنا» تكتشف حياتها الجديدة. كل ما تمنته وهى مراهقة قد تحقق الآن. لقد صارت، كما تمنت، امرأة فاتنة يتمناها الرجال، وحققت نجاحاً صحفياً رائعاً فى حياتها المهنية. لكن خلف الغلاف البراق تكمن التفاصيل المحزنة. اكتشفت أنها فى السنوات المنسية قد أهملت والديها وقاطعتهما تقريباً. اكتشفت أنها بلا صديقات، بل خانت زميلتها مع زوجها. اكتشفت أنها نقلت أسرار العمل إلى المجلة المنافسة. ورغم النجاح والجمال والفتنة لم تعد راضية عن حياتها الجديدة. ببساطة لأنه ما زال داخلها قلب الطفلة، ابنة الثالثة عشرة، المحتفظة بالبراءة الأولى.
ولم يكن لديها سوى «مات» تلجأ إليه أن يساعدها ويأخذ بيديها. وبالفعل لم يخذلها وإنما شرع يساندها فى تهذيب مشوب بمرارة، لكنه ظل يحرص على أن تبقى هناك مسافة بينهما. لم ينس مرارة نبذها له وهو قلب أخضر. لقد دارت الأرض عدة مرات وانقلب كل شىء رأساً على عقب. و«كريس غراندى»، الذى نبذت «مات» من أجله، صار سكيراً فاشلاً. هكذا أدركت «جنا» أن «مات» هو الشىء الحقيقى الوحيد فى حياتها، وهكذا أدركت أنها تحبه. لكن المشكلة أن أشياءنا الثمينة التى سقطت من جيوبنا، ونحن نركض خلف القطار، لا نستطيع الانحناء لاستعادتها لأن الأمور لا تجرى بهذه البساطة. «مات» مثلاً كان على وشك الزواج بفتاة أخرى. وبينما كانت استعدادات ليلة الزفاف تتم وعروسه تضع لمساتها الأخيرة، أخبرها «مات» أنه تألم بسببها كثيراً. ورغم ذلك احتفظ ببيت الأحلام كل هذه المدة. كانت مفاجأتها برؤيته لا تُوصف، أخبرها أن مشاعره ارتبكت كثيراً حينما اقتحمت حياته. لكنه أدرك فى نهاية الأمر أنه لا يمكننا إعادة الزمن إلى الوراء. لقد مضى كل منهما بحياته، وسلكا اتجاهين مختلفين، واختار فتاة أخرى لا ذنب لها وضعتها الأقدار فى طريقه.
تركته «جنا» وهى تبكى. عادت «جنا» إلى بيتها القديم ومضت إلى خازنة الثياب تستعيد اللحظة الفاصلة فى حياتها. الشىء الحقيقى الذى أدارت ظهرها له، لأنها لم تدرك وقتها أهميته.
وتناثر «غبار الأمنيات» السحرى. وعادت النجوم تتألق بالفتنة والجمال والألوان المتألقة المتعاقبة. وعادت «جنا» فتاة الثالثة عشرة لحظة أن فتح «مات» الخازنة بالضبط. لكنها كانت قد تعلمت الدرس، وارتمت فى أحضانه. منحته أول قبلة فى حياتها وحياته. ارتسمت على وجه «مات» البدين ملامح المفاجأة، وبدا كأنه أسعد صبى فى العالم. لأول مرة تكف «جنا» عن إهماله، وتمنحه الاهتمام الذى يستحقه. لقد تغير الماضى فتغير تبعاً لذلك المستقبل، فإذا بـ«جنا» تجد نفسها وقد أصبحت عروس «مات» التى تضع لمسات الزينة الأخيرة.
كان الزمن رفيقاً بـ«جنا» ومنحها فرصة أخرى. لكنه لن يرفق بنا ويجاملنا هذه المجاملة. فلنحرص إذاً على أشيائنا الحقيقية، ولنضعها فى قلوبنا لا جيوبنا حتى لا تسقط ونحن نطارد القطار المسرع. ولنرفق بهؤلاء الذين أحبونا بحق كيلا نعض أنامل الندم فى المستقبل، ويضيع أجمل ما لدينا فى غبار الأمنيات المزيفة.