حكايات يابانية (حكاية البطة البلدي)

كثيرا ما يرسل لى الأستاذ «محمد غنيم» خطابات قيّمة من اليابان، مُضفّرة بتأملاته وانطباعه.
«كنت فى القطار الذاهب إلى طوكيو. انتهزت الفرصة وأخذت أنظر من النافذة إلى الخضرة الممتدة والبيوت المتناثرة وجمال الطبيعة، وأرى رجالا ونساء يركضون ويتريضون حول الحقول أو على ضفاف النهر. منظر بديع مريح للعين والأعصاب واستجمام للنفس. يكفيك أن تأتى بكرسى وكوب من الشاى أو فنجان من القهوة وتجلس فى أى مكان وتُمتّع ناظريك بما حولك. وحبذا لو بقيت لتشهد لحظة الغروب وقرص الشمس الأحمر الدامى يهبط غائبا بين الحقول ووراء النهر، والأفق يكسوه شفق أحمر كالياقوت، وحتى السحب يكسو بياضها احمرار يجعل المنظر أشبه بلوحة فنية رائعة من أعمال الخالق العظيم جلّ فى علاه.
وصلت إلى طوكيو، فركبت المترو. الجميع يتسمون بالأناقة والرشاقة وعصرية المظهر. فالنظام والدقة والانضباط هو الطابع العام لما حولك. لا تكاد تصدق أن كثيرا من النساء والفتيات ممن تراهم يعشن بمفردهن وحيدات تماما.
مشكلة اليابانى واليابانية- إلا قليلا- أنهم لا يتحدثون الإنجليزية، ولا سبيل إلى التواصل معهم. أذكر أن جيرانى فى المنزل السابق كانوا أسرة يابانية مكونة من أب وأم مسنين وابنة أعتقد أنها فى الثلاثينيات من العمر، ولم تكن متزوجة ولم أر لها صديقا طوال فترة سكناى التى امتدت لعام. كانت جميلة وتتمتع بقوام ملفوف وبشرة بيضاء وشعر قصير (كاريه) كالحرير، وكنت أرقبها فى غدوها ورواحها وأتعجب من أنها وحيدة دون زوج، وهى الوريثة المنتظرة للمنزل والحديقة والمدخرات، وفوق هذا كله جمال يسلب اللب، فأقول لنفسى: «معقولة هذه البطة البلدى دى مالهاش صاحب»؟.
ولشد ما تمنيت لو فزت بها فهى رزينة وعاقلة، فلو كنت أتحدث اليابانية أو كانت تتحدث الإنجليزية لصارت هذه البطة البلدى تكاكى فى بيتى! كانت إذا تصادف وشاهدتنى تحيينى بإيماءة من رأسها وأظل أرقبها وهى تسير حتى تختفى عن ناظرى، وأقول لنفسى «يا ميت ندامة ع اللى حب وما طالش».
خرجت من المحطة متوجها إلى غرفتى، تقابلنى فتيات جميلات يسرن بمفردهن، لست أدرى يقينا أذاهبات لموعد أو هو مجرد سير بلا هدف وبحث عن صدفة تضع الأقدار معها شبابا وسيما فى طريقهن فيجعل من عطلة نهاية الأسبوع فردوساً موجودا بعد أن كان مفقودا.
هل اليابانيون سعداء؟!سؤال فلسفى وجدلى، لكنى أزعم من خلال خبرتى، أن الإجابة بالنفى. هم ليسوا سعداء! وإذا أصابتك الدهشة وسألتنى لماذا وهم يتحلون بالانضباط والنظام والتقدم والأناقة والجمال؟ وماذا يريد الإنسان أكثر من ذلك؟ أجبتك أنهم يعانون من ضغوط كبيرة، بدءاً من الأعباء الأسرية والالتزامات المادية الكثيرة للأسرة إلى فتور العلاقات الزوجية وإيقاع العصر الذى فكّك الأسرة اليابانية العتيدة القديمة المعروفة بتماسكها وترابطها. ذهب كل ذلك مع الريح ودخلت الأسرة القديمة بقيمها وأصالتها وترابطها إلى متحف التاريخ وغدت مثل الغول والعنقاء والخل الوفى!
وستُصاب بصدمة إذا اكتشفت أن المرأة والفتاة اليابانية الحديثة لا تمت بأى صلة لما فى مخيلتك عنها من أنها الزوجة الوفية المطيعة لزوجها التى تتفانى فى خدمته وتسهر على راحته وراحة أسرتها. وسيظن من تتحدث إليه من اليابانيين أن بك مَسا من الجنون أو لديك روح دعابة!.