سرّاق الغلابة

هذا الفيلم، الذى ما زال يُدرّس فى معاهد السينما حتى اليوم، يكشف كل شىء على المفضوح. «سارق الدراجة The Bicycle Thief». يدور الفيلم فى إيطاليا عقب الحرب العالمية الثانية. إيطاليا المحطمة. إيطاليا الجائعة. إيطاليا المأزومة، وسط حشد من العاطلين الباحثين عن فرصة عمل من أجل إطعام كوم اللحم الذى تركوه فى البيوت، بطل الفيلم ليس ممثلا محترفا، وإنما عامل فى أحد المصانع، التقطه المخرج الإيطالى فيتوريوا، وبالفعل كان أداؤه مقنعا لأن البؤس كان ينضح على وجهه، بؤس طبيعى غير مفتعل وغير قابل للتمثيل. فكرة الفيلم أن هناك فرصة عمل، لكن بشرط أن يمتلك دراجة، ذلك أن وظيفته هى لصق الإعلانات على المبانى فى جميع أنحاء المدينة. لا غرابة إذا فى اشتراط الدراجة كشرط للوظيفة، التى كانت مجزية إلى حد توفير الطعام لزوجته وابنه الصغير، ولم يكن يطمح إلى أكثر من هذا.
■ ■ ■
تتوالى أحداث الفيلم. تغوص الكاميرا فى الأحياء الفقيرة والبيوت المهشمة والوجوه الجائعة. لا تصدق أن هذه هى إيطاليا. كالعادة يدفع البسطاء ثمن حماقة زعمائهم وقراراتهم الخاطئة. ثمن تهور موسولينى وتحالفه مع هتلر، والانفراد باتخاذ القرارات الكبرى التى تمس الوطن، بمعزل عن الشعب الذى لا حول له ولا قوة. فقط يدفع الثمن فى جميع الأحوال.
■ ■ ■
كنت أشاهد الفيلم ويدى على قلبى! العنوان نفسه يشير إلى سرقة الدراجة. وبالفعل شاهدنا ذلك اللص الذى يتسلل ويسرق الدراجة، بينما هو مشغول بوضع الغراء لملصق نجمة سينمائية أمريكية عارية!
يجرى خلفه! تتسع المسافة! يبتعد اللص! تتبعد الدراجة. حينئذ يبدو على وجهه الرعب وعدم التصديق. هذه الدراجة القديمة المتهالكة، هى ليست فى الحقيقة مجرد دراجة، وإنما هى وظيفته نفسها. وفى جو الفاقة الذى يضرب الطبقات المطحونة ولا يرحم أحدا، ويستحيل أن يقرضه أحد، يصبح العثور عليها هو الحد الفاصل بين الحياة والموت.
■ ■ ■
الشرطة بالطبع تلقت البلاغ دون اهتمام. فى الصباح التالى، يذهب مصطحبا طفله الصغير إلى سوق الدراجات المستعملة، حيث يُتوقع أن يبيعها اللص. لكن أنى له أن يجدها وسط آلاف الدراجات؟
■ ■ ■
العالم دراجة. الطعام دراجة. وما بين الحياة والموت دراجة. الشوارع كلها مليئة بالدراجات. عندما تبحث عن شىء ما تبدأ فى ملاحظته. وهؤلاء الناس الذين يملأون الشوارع لماذا لا يلاحظه أحد؟ لماذا لا يعبأ بمحنته أحد؟ لماذا ينصرف الجميع ويتركونه وحده فى مواجهة هذا العالم القاسى الذى يطحن الفقراء؟
■ ■ ■
تورطنا الكاميرا، أثناء بحثه عن دراجته، فى الدخول لمساكن الفقراء أثناء مطاردته للص. تتركنا نكتشف بأنفسنا أن اللص هو مجرد فقير آخر. وفى النهاية يأتى أروع مشاهد الفيلم، وأكثرها إيلاما: حينما يبلغ به اليأس منتهاه، فإنه يبدأ بملاحظة وجود دراجة مركونة بجوار أحد الأبواب. تتتابع ملامح الإثم واليأس والاشتهاء على وجهه المعذب. فندرك- ونحن نضع أيدينا على قلوبنا- ماذا سيحدث! سوف يتحول هو الآخر إلى سارق! الفقراء لا يجدون من يسرقونهم سوى الفقراء أمثالهم. لكنه الحل الوحيد الممكن أمامه كى ينقذ زوجته وابنه، وينقذ نفسه أيضا، من الموت جوعا.
■ ■ ■
وهكذا تحول المسروق إلى لص. لكن ماذا تتوقع أن يحدث وهو لا يملك مهارات لص؟ إنه مجرد رجل يائس. بالطبع يتدخل حظه السيئ فيمسكون به، ويقتادونه إلى الشرطة، لولا توسلات ودموع ابنه الصغير!
■ ■ ■
وينتهى الفيلم باللقطة التالية: الأب وابنه يبتلعهما زحام الشارع الذى لا يرحم، معلنا أن (الغلابة) لا نصير لهم أبدا فى تلك الحياة.