فطور عند تيفاني

عندما يضيق صدرى ولا ينطلق لسانى، فى مثل هذه الأيام الصعبة، فإننى أهرب إلى ذلك المخدر اللذيذ الذى يُدعى «السينما».
مدين أنا للتكنولوجيا الحديثة التى جعلت مشاهدة التراث السينمائى ممكنا. وشعور ممتع أن تشاهد فيلما من كلاسيكيات السينما العالمية، اسمه «إفطار عند تيفانى Breakfast at Tiffanys». وشعور ممتع أكثر حين لا يكون هناك أى إفطار عند تيفانى أصلا، الذى يتبين أنه ليس أكثر من محل مجوهرات، تذهب إليه الجميلة كلما أرادت أن يهدأ روعها.
فى الفيلم أشياء مبهجة. أهمها- بالنسبة لى- أنه تم إنتاجه عام ١٩٦١. أى عندما كانت أمى فى العشرينيات من عمرها. ترى هل اصطحبها أبى إلى السينما ذات مساء باسم؟ أترانى أحمل له تراثا من الود لأن أمى أحبته؟ أترانا جميعا نحمل ثروة من الذكريات تسربت إلينا من أجدادنا؟ وإلا فكيف نفسر فيضان مشاعر الود التى تباغتنا فجأة ولا نعرف كيف نصفها؟
الفيلم مقتبس من رواية أدبية. هناك حسناء خفيفة الظل متهورة جدا، هذه الحسناء تصادف أنها «أودرى هيبرن» بطلة الفيلم الخالد الذى لا أمل من تكرار مشاهدته «My fair lady» إذا كنت لم تشاهده فإننى أحسدك على المتعة المنتظرة.
هذه الحسناء تقطن بناية، انتقل إليها شاب وسيم عازب. آه. أنت تتذاكى وتقول إن قصة حب سوف تنشب لا محالة بين الجارة الحسناء والشاب الأعزب! دائما أنت عزيزى القارئ متسرع! ولكن- رباه- هذا ما حدث فعلا، يبدو أنك لمّاح جدا.
لكن الحسناء غريبة الأطوار، وتضرب الدنيا (صرمة). يتساوى عندها التبر والتراب، والغنى والفقر، المهم أن تعيش حياتها كطائر فى السماء أو كغزال برى. هى لا تطيق القيود بأى حال، حتى لو كانت قيود الزوجية وبهجة الأمومة، وتريد أن تعيش النزق بكل ذرة فى كيانها. تريد أن تنام فى أى مكان، وتطوف العالم، ولا تشغل بالها بهموم الرزق ولا تعنيها الحياة المستقرة. نموذج ربما كان يثير شغفى أيام شبابى، لكنى الآن أراه «وجع دماغ». إذ من يحتمل أمثال هذه الفتاة المتحمسة؟ لشد ما أرثى لكل رجل يحب امرأة من هذا الطراز، يلهث وراءها محاولا أن يتقبل غرابة أطوارها. رأيى الشخصى أنه سيسأم منها فى النهاية، ولن يتحمل طويلا. لكن طبعا هذا لا يحدث فى الأفلام، وبالأحرى لا يحدث لحسناء مثل «أودرى هيبرن».
فى عالم الحقيقة لابد أن «أودرى هيبرن» تدقق فى الأجر، وخلفها جيش من المحامين يخربون بيت المنتجين لو تلاعبوا بها. أما فى عالم الخيال فهذه الحسناء النزقة، المجنونة نوعا ما، كعصفورة تلتقط الحب طيلة الصباح، وتعود لعشها قبيل الغروب، لتزقزق قليلا ثم تنام. هكذا تصر أن تستمر حياتها.
أود أن أقول إن الإنسانية- فى كل العالم باستثناء مصر- تستوعب هذا الطراز الإنسانى. العزوف عن الاهتمامات المألوفة، الذى لم يستعبده المال والإحساس بالأهمية والحياة الاجتماعية، التى وإن تكن رتيبة فإنها تمنحك شعورا بالانتماء. وتمنحك أيضا شيئا معينا لا يُقدر بمال. إحساسك أنك طبيعى مثل الآخرين. كم توجد بين من يقرأ المقال الآن امرأة تعيسة، تعرف أنها تعيسة، ورغم ذلك تخشى أن تفك خيوط تعاستها! وكم من رجل تعيس لا يملك القدرة النفسية على تغيير واقعه.
«الفطور عند تيفانى» فيلم يمنحك ثغرة تطل من خلالها على حياة هؤلاء الذين قرروا أن يعيشوا حياتهم كما يروق لهم، دون أن يبالوا بآراء الآخرين.