تحية لشيخ الأزهر

لا يستحق شيخ الأزهر الهجوم أبدا على كلمته التى ألقاها فى مؤتمر حكماء المسلمين للحوار الحضارى فى بورما، بل يستحق كل تحية على خطابه الحكيم. ذلك لأن القاصى والدانى يعلم أن دماء المسلمين المستضعفين تُراق هناك بلا عاصم، وأن الدول الإسلامية، ناهيك عن الدول الكبرى، تكتفى بعبارات الشجب والإدانة، ثم لا تفعل شيئا على أرض الواقع. أو ربما هى لا تملك شيئا تصنعه، فالقوة تتحدث بنفسها عن نفسها، والسيف أصدق أنباء من الكتب، والدول الإسلامية ليست عندها القوة ولا الرغبة فى التدخل الحازم لوقف المجازر هناك.
■ ■ ■
فى ظل هذه الظروف البائسة، منتهى الحكمة أن يتودد شيخ الأزهر إلى البوذيين، ويذكرهم بتعاليم بوذا التى هى فعلا تكرس السلام والرحمة. ولا يعنى هذا بحال أنه يقرهم على دينهم بثنائه عليهم! ألم يأن الأوان أن نتخلص من هذه النغمة المقيتة! إذا قلت للمسيحى «كل سنة وأنت طيب»، فإنهم يتهمونك بأنك تقره على دينه. كلام فاضى طبعا، فأنت تعلم، والمسيحى يعلم أنها ليست أكثر من مجاملة، وأن لكم دينكم ولى دين.
■ ■ ■
المسألة إذاً ليست أكثر من تصفية حساب لمواقف شيخ الأزهر السياسية. وأنا لا أدافع عن تلك المواقف وهذه الاختيارات. فقد كنت أتمنى أن يصون عمامته الأزهرية المبجلة عن الصراعات السياسية. لكنى- فى الوقت نفسه- لا أخلط هذا بذاك.
إذ ماذا تطلبون من الرجل أن يفعل؟ هل يملك الأزهر جيوشا يحركها؟ أم طائرات تقصف بورما؟ أم تريدون منه– وهو يحاول عصم دماء المسلمين هناك- أن يسب البوذيين– وهم الطرف الأقوى- ويقول لهم مثلا: «آه يا كفرة يا ولاد الكلب». منتهى الحكمة منه أن يتودد! وأن يرقق قلوبهم ويحاول تذكيرهم بتعاليمهم المقدسة، والتى تدعو فعلا إلى السلام.
■ ■ ■
إن كلمة شيخ الأزهر فى هذا المقام لتستحق أن تُسطر بحروف من ذهب. لأنها تجمع بين البلاغة والحكمة. وهذه بعض مقتطفات الخطاب:
«البوذية دين إنسانى وأخلاقى فى المقام الأول (لم يقل دينا سماويا فتأملوا)، وإن بوذا ذلك الحكيم الصامت من أبرز الشخصيات فى تاريخ الإنسانية، وكان من أبرز صفاته الهدوء والعقلانية وشدة الحنان والعطف والمودة، وإن كبار مؤرخى الأديان يصفون رسالة بوذا بأنها دين الرحمة غير المتناهية، وأن صاحب هذه الرسالة كان وديعا متسامحا غير متكبر، بل سهلا لينا قريبا من الناس. وكانت وصاياه تدور على المحبَّة والإحسان للآخرين، وما أريد أن أهدف إليه من وراء هذا السَّرد هو أن مجلس الحكماء يعقد عليكم آمالًا فى أن تبدأوا غرس شجرة السَّلام التى تظلل مواطنى «راخَيْن» بل مواطنى بورما بأجمعهم، وأن تبدأوا فى نشر ثقافة المواطنة، حتى تَقْضوا على مفهوم «الأقليات» وما يجره هذا المفهوم البائس من إقصاء وتهميش، ينتهى دائمًا بسفك الدماء وتشريد الأبرياء».
وأنا لا أعرف فتنة أضر للناس وأسكب لدمائهم من القتل باسم الدين تارة وباسم العرق تارة. فما من أجل القتل بُعث المرسلون.
لستُم- أيها الإخوَة والأبناء من شعب ميانمار- بحاجةٍ إلى مزيدٍ من القول فى بيانِ الخطر الماحق الذى يتهدَّد أوطانكم بسبب الأزمة التى تدور رحاها فى ولاية «راخَيْن. وإنها لأزمة غريبة- حقًّا- على شعب ميانمار الذى يضرب بجذور راسخة من قديم الأزمان والآباد فى تاريخ الدِّين والحِكْمَة والسَّلام، وكانت حضارته وأديانه مشاعل سلام للإنسانيَّة جمعاء».
■ ■ ■
تحية للشيخ الحكيم. هذا كلام رجل يبغى المصلحة فعلا. ولا يهدف إلى تسجيل موقف أو بطولة وهمية فى معترك الكلام الذى لا يؤدى إلى شىء.