خيار غاندي

ما أعجب تصاريف القدر! في الوقت الذي كانت تنفجر فيه بروكسل، كنت في اللحظة نفسها أشاهد فيلم «غاندى». وكأنما الأقدار تجيب عن أسئلتى: «ما الذي بوسع المظلوم أن يفعله بإزاء قوة غاشمة؟».
■ ■ ■
الفيلم يجيب عن هذه الأسئلة بإجابة مختلفة عن كل ما عهدناه. اعتدنا خيار العنف وزينوه في عيوننا. لكن غاندى خط طريقا آخر. العجيب أن هذه الرؤية المبتكرة قد تبلورت منذ عمر مبكر. كان مجرد شاب عندما سافر إلى جنوب أفريقيا واصطدم- كونه ملونا- بقوانين الفصل العنصرى الظالمة.
خذ عندك هذا الموقف مثلا: كان يسير مع راهب أوروبى عندما تحرش به رعاع من الشباب الأبيض العنصرى. فارت الدماء في عروق الراهب وهمّ بالتصدى لهم. لكن غاندى ذكّره بقول المسيح: «إذا ضربك عدو على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر».
قال لصديقه الراهب: «لا بد أن تظهر شجاعتك. أن تكون مستعدا لتلقى ضربة، لتظهر لهم أنك لن ترد الضربة ولن تتراجع. وعندما تفعل ذلك فإنك تثير شيئا في الطبيعة البشرية، يجعل كراهيته لك تقل واحترامه يزداد. أعتقد أن المسيح أدرك ذلك ورآه مجديا».
■ ■ ■
الفلسفة نفسها دعا إليها في مواجهة الاحتلال البريطانى. لاحظ أن الهند كانت هي درة التاج في الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ولم يكن ممكنا أن تتخلى بسهولة عنها. اليأس دفع الوطنيين إلى مقاومة الاحتلال بالاغتيالات والتفجيرات كما تفعل عادة الشعوب المقهورة. وهكذا لم يعد غريبا أن تتحول الهند إلى جزيرة من نار تأكل المحتل وتأكل أبناءها أيضا. لكن غاندى كان منطقه مختلفا:
«أنا مستعد للموت ولكنى غير مستعد أن أَقتل. فمهما يفعلون بنا فلن نقتل أحدا. ولكننا لن نعطى أيضا طاعتنا. لن نوجه الضربات وإنما سنتلقاها. ومن خلال معاناتنا سنجعلهم يرون ظلمهم. وسيؤلمهم ذلك أكثر مما يؤلمهم القتال. ولكن لا يمكن أن نخسر. ربما يعذبون جسدى أو حتى يقتلونى. وقتها سيحصلون على جثتى وليس على طاعتى».
■ ■ ■
إن جسدى ليقشعر كلما أعدت قراءة هذه الكلمات المبهرة. غاندى لم يدع إلى الاستسلام قط، أو صمت الحملان حين تستكين الذبيحة لسكين الجزار. غاندى دعا إلى مقاومة من نوع آخر. راهن غاندى على الإنسان داخل خصمه. الإنسان الذي كرمه الله ونفخ فيه من روحه. هذا الإنسان قد يخضع لغرائز اللحم والدم فينهب ويضرب ويقتل. لكنه يبحث دائما عن مبرر أخلاقى. والمقهور حين يواجه ظالمه بالإرهاب فإنه يعطى لظالمه المبرر الأخلاقى لممارسة العنف الأشد.
لكن لحظة يمارس الإنسان الظلم الصارخ، ثم لا تقاومه الضحية (ولا تعطيه الطاعة أيضا)، فإنه يرى ظلمه مجردا.
أتراه هو نفس منطق هابيل حين قال لأخيه الظالم «لئن بسطت إليّ يدك لتقتلنى ما أنا بباسط يدى إليك لأقتلك. إنى أخاف الله رب العالمين».
راهن غاندى، كما راهن هابيل من قبل، على الإنسان داخل خصمه. وبالفعل انتصرت القضية. هذا قابيل يحمل أخاه القتيل نادما: «يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوءة أخى فأصبح من النادمين»، وهذه هي سفن الاستعمار الإنجليزى تفارق الهند فراقا لا لقاء بعده.
■ ■ ■
إنه درس بليغ عندما يواجه الإنسان ظلما من قوة لا قِبل له بها. لقد جرب المستضعفون خيارات العنف مرة بعد مرة وثبت فشلها. فلماذا لا يجربون- ولو لمرة واحدة- خيار غاندى؟.