ولكنكم فتنتم أنفسكم

لاحظت -على صفحات التواصل الاجتماعي- وجود مجتمع مغلق من المثقفين الذين لا يكفون عن طرح الأسئلة وإثارة الشكوك. وأحيانا يتجرأون على القرآن نفسه باتهامه بالعنف أو عدم قابليته للتطبيق!

وعندما تنصحهم فإنهم يقولون: «هل الشك خطأ؟ أم أنه طريق للحقيقة؟ ألم يشك النبى إبراهيم عليه السلام عندما قال «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْيِى الْمَوْتَى».
ألم يقل الله تعالى لرسوله: «فَإِنْ كُنْتَ فِى شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ».
فما الخطأ إذاً فى الشك كوسيلة للمعرفة؟
■ ■ ■
رأيى الشخصى أن هناك فارقا كبيرا بين أن تتخذ السؤال كوسيلة للمعرفة، وأن تظل فى دائرة الشكوك، ولا تتجاوزها إلى اليقين.
خصوصا عندما يكون الأمر بكامل إرادة الإنسان– كنوع من التعالى على من نعتبرهم من (الأميّين). نوع من أمراض القلوب الخفية، حيث يتكون مجتمع من أشباههم الذين يسخرون من البسطاء، يتعالون عليهم ويشعرون أنهم أفضل منهم عقلا وثقافة ومعرفة.
عندما سأل إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيى الموتى فإنه لم يكن يشك فى البعث؟ والدليل أن خالقه سأله- وهو أعلم بالإجابة- «قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي».
إبراهيم لم يشك ولكنه أراد الأنس برؤية يد القدرة الإلهية وهى تعمل! هذه مقامات الأنبياء. شيء شبيه بطلب موسى عليه السلام أن يرى ربه (قال ربى أرنى انظر إليك). هذه مقامات أخرى لا علاقة لها بالشك مطلقا.
أما بالنسبة لآية (فإن كنت فى شك.. الآية»، فقد أهدانا المولى الطريق إلى اليقين. إنه السؤال بغرض المعرفة (فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)، وليس بغرض استمراء حالة الشك والتساؤل والدخول فى حلقة مفرغة من عدم اليقين (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).
■ ■ ■
تأمل معى– عزيزى القارئ- هذه الآية الكريمة فى سورة الحديد. فى يوم البعث يجعل الله حاجزا بين المؤمنين المصدقين ومن فتنوا أنفسهم.
(يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
تأمل معى عزيزى القارئ (ولكنكم فتنتم أنفسكم). عندما يدخل المرء مختارا فى دائرة الشكوك، عندما يستمرئ الشك، عندما يصبح عنوانا له، عندما يتعالى على جمهور البسطاء المصدّقين، عندما يظن أنه أفضل منهم بتساؤلاته وثقافته والرطانة التى ينطق بها، فإنه- بلا شك- فتن نفسه بإرادته!
■ ■ ■
وتأمل أيضا (غركم بالله الغرور). ينبغى أن نحذر كثيرا ونحن نتكلم عن الخالق فى علاه. وإذا كان سبحانه يمهلنا فى الحياة الدنيا، فهناك يوم قادم للحساب.
■ ■ ■
نصيحتى لمجتمع المثقفين أن يفرقوا بين ما يجوز الشك فيه وما لا يجوز الشك فيه. إننى على سبيل المثال أشك كثيرا فى وقائع التاريخ. بل وأشك أحيانا فى نسبة بعض الأحاديث للمصطفى، وأتوقع أنها مكذوبة عليه. لكننى لا أشك أبدا فى المصدر الإلهى للقرآن ولا فى شخص الرسول.
ويقينى الذى (يقينى) أن لهذا الكون البديع خالقا، إذ يستحيل أن تكون هذه القوانين الدقيقة المنبثة فى طبائع الأشياء صدفة. ويقينى أن القرآن يشير بذاته إلى أصله الإلهى. هذه البلاغة والروعة والكثافة والعظمة والسطوع الإلهى فى كل آية من آيات الذكر الحكيم.
■ ■ ■
فتجاوزوا السؤال إلى الإجابة، والشك إلى اليقين. وتواضعوا قليلا يا معشر المثقفين، ولا تتخذوا من إدمان الشكوك وجاهة! واحذروا أن تكونوا من هؤلاء الذين قال الله عنهم (ولكنكم فتنتم أنفسكم). إذ ما أسوأ أن يفتن الإنسان نفسه بيديه!.