المجد للأخضر

فى أحد الأفلام شاهدت مشهدا أثار شجونى. وكان المشهد كالتالى:
غابة خضراء، غابة استوائية، غابة مليئة بالأشجار السامقة والنباتات المتنوعة ذات الألوان المختلفة، غابة استغرق صنعها ملايين السنين!
ليست ملايين السنين فحسب، بل بلايين السنين. حينما كان هذا الكوكب كتلة ملتهبة لا تصلح للحياة، انفصلت لتوها عن أمها الشمس، وراحت تدور فى الفضاء. راحت تفقد حرارتها بالتدريج عبر ملايين الملايين من الأعوام. ثم بدت بشكل ما كأنها تتأهب للخصب والحياة.
الكوكب صار دافئا، ليس باردا يكسوه الجليد كحال المشترى وبلوتو، ولا ساخنا ملتهبا كحال الزهرة وعطارد، ولكن دافئا كحساء أعدته الأمهات.
الكوكب به ماء. لا أحد يدرى من أين هطل هذا المطر؟ الكوكب له غلاف جوى يحميه من الشهب والنيازك، الكوكب خصب كأنثى تجملت فى انتظار الزوج حتى يهبها الحياة.
حدثت المعجزة. بكلمة الله الخالق دبت الحياة فى الكائنات وحيدة الخلية، لم تدر ماذا حدث لها! وجدت نفسها تتحرك وتأكل وتتكاثر، راحت تكبر وتندمج، صارت تحب وتعشق، وفى صمت شرعت تنسج اللون الأخضر، أول لون كسا الكوكب بأكمله، فى تلك الحقب البعيدة والسعيدة لم تبق بقعة من الأرض لم تتلون بالأخضر. الجبال! التلال! السهول! الوهاد. كان الأخضر يتكاثر، ومن رحم الأخضر وُلدت الألوان الأخرى، الأحمر بلون الطماطم، البرتقالى بلون البرتقال! المشمشى بلون المشمس. البنفسجى بلون البنفسج. الأبيض بلون الياسمين. حزمة من ألوان قوس قزح بدأت تنتشر فى أرجاء الكوكب. حفل زينة منصوب باتساع الكوكب بأكمله، ومن فوقه لون السماء الأزرق الصافى يبارك مهرجان الألوان.
■ ■ ■
كان المشهد كالتالى: غابة خضراء يسودها الهدوء والسلام. لكن فى قلب الغابة كانت هناك مدافع منصوبة، وأسلحة مُشهرة، وقنابل منزوعة الفتيل. وكان هناك فريقان يقتتلان. كلاهما يحمل بندقية ومدفعا وقنبلة. وكان كلاهما يطلقان الرصاص. ومن آن لآخر يسقط أحدهم قتيلا، جسدا فارغا، منزوعة منه الحياة. يسقط كبالونة مثقوبة، كأنها لم تمتلئ بالهواء يوما، ولم يعرف وثبة الحب ورغبة الحياة.
القتال صار لا يُطاق منذ اختراع الرصاص. هذه القطعة الصغيرة من الشر، لا تحمل نبلا، لا تحمل بطولة، تصوبها من بعيد، وأنت مختفٍ وراء الآجام، تصيب بها مقتلا. منذ ذلك الحين صارت الحياة هشة وسهلة المنال. والموت أقرب من أى وقت آخر.
■ ■ ■
المشهد كان كالتالى: الرصاص ينصب صبا على الأشجار التى عاشت لآلاف السنين. تتهشم الأشجار. تسقط صامتة، وفى صمتها كل الألم والدهشة أنها تدفع ثمن صراع لم تشارك فيه. الجنود راحوا يتساقطون تباعا، من الفريقين. لا تدرى فيم يموتون ومن أجل ماذا؟ وكيف يضحى أحمق بهبة الحياة دون سبب واضح؟! بعضهم يلهجون باسم الثورة. والآخرون يلهجون باسم الاستقرار. وفى حال تبادل المقاعد يصبح الحكام ثوارا والثوار حكاما. وما كان مرغوبا وقتذاك يصبح ملعونا الآن. وفى هذه وتلك القتلى يتساقطون. يضحون بحياة لا تُعوض، من أجل شعارات كاذبة وأفاكين يأكلون على كل الموائد، وأبدا أبدا لا يشبعون.
الحمقى يتصارعون! يتقاتلون! يتساقطون! يموتون! هذا مع أن موارد الأرض تكفى الجميع.
■ ■ ■
المشهد كان كالتالى: رحل الناجون من الجنود. أو ربما ماتوا جميعا. تركوا مدافعهم أو أخذوها معهم. المؤكد أن الجثث تحللت، والمدافع صدئت، وأشجارا أخرى وليدة نمت فى أماكن الأشجار المتساقطة. وعاد الهدوء إلى الغابة. كأنما الرصاص لم يدوّ يوما، ولا القنابل، ولا صرخات الجنود.
اكتسى المكان بالنباتات الحية، وكأنما تعلن بلسان اللون أن المجد للأخضر وللحمقى القبور.