دعوة للتأمل

هذا الفيلم يجب ألا يمر مرور الكرام. فإننى لست هنا لأحكى لكم لأسليكم، وإنما أتخذه ذريعة للتأمل.
عن فيلم «الذين لا يمكن المساس بهم The untouchable» أتكلم. أمريكا التى حرّمت الخمور عام ١٩٣٠. أمريكا التى تقدس الحريات الفردية كيف فكرت فى اتخاذ قرار كهذا؟ أليس هذا عجيبا جدا ويدعونا للتأمل؟!
ثم ماذا كانت النتيجة؟ ازدهر التهريب المصحوب بالإجرام العنيف، الذى لا يتورع عن القتل من أجل البيزنس. زمن آل كابونى وعصابات القتل فى شيكاغو حين انتشر قتل ضباط الشرطة، بحيث صار الواحد منهم يحمد الله إذا انتهى اليوم ومازال حيا!
ثم تذكروا كيف استطاع القرآن الكريم بتشريع واحد أن يمنع الخمر نهائيا! وتأملوا ماذا يستطيع الإيمان أن يفعله.
■ ■ ■
كيفين كوستنر الرائع كان يجسد دور ضابط جاء ليقتلع الجريمة من أرض الجريمة! كان أول ما طالب به رجاله أن يمتنعوا عن شرب الخمور، لأنه يجب على رجال القانون أن يكونوا أول من يلتزم به. لاحظ أن كوستنر لم يكن معاديا للخمور، وإنما يحترم القانون لا أكثر! طالما أن القانون يجرّم تناولها فلابد من تنفيذه.
هذه أيضا للتأمل.
■ ■ ■
المشكلة التى واجهت كوستنر أن رجال الشرطة كانوا فاسدين تماما. مخترقين تماما. مرتشين من رجال العصابات، فاقدين احترامهم لأنفسهم. وحده شرطى الدرك الذى قابله كوستنر بمحض الصدفة تبدو عليه سيماء الرجولة والشرف. لكن ما يطلبه منه كوستنر ليس شيئا هينا. إنه- ببساطة- يطلب حياته!
■ ■ ■
هنا نأتى إلى أشد الاختيارات صعوبة. حياتك مقابل شرفك! أرجوك لا تتحمس وتزعم أن حياتك ثمنٌ هيّنٌ من أجل ما تؤمن به. فما أكثر الدعاوى وأقل الحقائق! ويوم الامتحان يُكرم المرء أو يُهان. وقت الجد ستجد أولويتك أن تحفظ حياتك.
ضع نفسك مكان الشرطى! هب أنك مت فى سبيل أن توقف إجرام آل كابونى! ما الذى سيحدث بعدها؟ ببساطة لا شىء. لن ينتهى الشر من العالم. ستظل الشمس تشرق كل صباح دافئة، ويذهب الأطفال إلى مدارسهم، وتولد قصص حب، وتُطبع جرائد الصباح، وستُنسى تماما.
كيف تضحى بأغلى ما عندك؟ حياتك التى لا تملك غيرها، من أجل غيرك؟ أصدقك القول، عن نفسى لن أفعلها أبدا. ربما أغامر بحياتى فى سبيل هدف دينى واضح على وعد بالجنة! لكن انظر إلى شهداء يناير، كيف صاروا يُتهمون اليوم بأنهم عملاء!
هذه ليست للتأمل وإنما للبكاء الغزير!
■ ■ ■
لكن العجيب أن الشرطى شديد المراس فعلها. لم تتحمل نخوته الهروب من الواجب، وقرر الانضمام إلى هذا الفريق الاستشهادى. هنا بدأ الرصاص يمطرهم جميعا. والواحد تلو الواحد يُستشهد! والجانى معروف، ودائما يفلت من العقاب. هنا نأتى إلى المعضلة الكبرى! كوستنر مُصِرّ على الالتزام بالقانون، مع أن المنطق البسيط يقول إن تصفيته- خارج إطار القانون- سوف ينهى المذبحة.
لكن كوستنر يؤكد أن تجاوز القانون سوف يحوّل مجتمعاتنا إلى غابة. هب أن آل كابونى يستحق القتل فعلا، ماذا لو استخدم غيره عدالته الخاصة وقتل من لا يستحق القتل؟!
هذا اختيار فى منتهى الصعوبة. أن تلتزم بالقانون حتى لو كان الثمن أن تُقتل. لكن النبيل كيفن كوستنر فعلها.
■ ■ ■
الفيلم بأكمله ملىء بمساحات للتأمل. أعتقد أن كل ما نراه ونسمعه فيه الكثير من العِبَر، فقط لو انتبهنا.