هل تمثل الطبيعة إرادة الخالق؟

مصادفة عجيبة حقاً، أو لعلها رسالة! كنت قد انتهيت لتوى من كتابة المقال الذى قرأتموه بالأمس ويتحدث عن شبهة الشر. وتصورت أننى تجاوزت هذا الموضوع، وسأدلف إلى باقى الشبهات، لولا أن هذا الفيلم وقع فى طريقى (عالم الديناصورات). وهو فيلم مشهور جداً لا أدرى كيف لم أشاهده!
الفيلم، وهو من نوع الخيال العلمى، يعتمد على فكرة إعادة إحياء الديناصورات فى المعامل عن طريق استنساخ حمضها النووى الذى تم العثور عليه فى الحفريات. ليس الديناصورات فحسب، بل كل خلائق ما قبل التاريخ، منذ عشرات الملايين من السنين، حيث كانت الطيور المتوحشة، الأشبه بالوطاويط العملاقة، تحلِّق فى السماء.
■ ■ ■
لست معنياً بقصة الفيلم إلا بالقدر الذى يخدم فكرة المقال عن شبهة الشر. فلنقل إن الجمهور استقبل هذه الديناصورات بحماس، بعد أن تم توطينها فى إحدى غابات أمريكا الوسطى، حيث المساحات الشاسعة من اللون الأخضر والأشجار العملاقة والحيوانات المنقرضة تحاكى كل تصوراتنا عن العالم القديم قبل ظهور الإنسان بملايين السنين.
بالتأكيد استقبل الأمريكيون مشاهدة الديناصورات العملاقة بحفاوة، لكن السنين مضت، والجمهور بطبعه ملول ويرغب فى التغيير، وهكذا بدأت القصة الخطرة: محاولات إسعاد الجمهور وتثوير حماسه عن طريق التلاعب فى الجينات، حيث نشأ هذا الديناصور، آكل اللحم، فى عزلة تامة، لم يرَ مخلوقاً قط. حتى استطاع- رغم كل الاحتياطات- أن يفر من القفص، ليتحول إلى آلة قتل جبارة تتجول فى الجزيرة التى تعج بعشرين ألف زائر معظمهم من الأمهات والأطفال.
■ ■ ■
وهكذا انطلق الديناصور الذى لا يُقهر ليدمر كل ما يصادفه، حتى الديناصورات آكلة العشب، كلها قتلها ليس بغرض الأكل وإنما للتسلية والتدمير.
كان مشهداً مروعاً حين اقتحم الديناصور القاتل قفص الطيور المتوحشة التى تشبه الخفافيش العملاقة، رافعاً عنقه الطويل ليفترسها وهى طائرة فى الجو، ولتهاجم هى الأخرى بأسرها ما تقدر على اصطياده من الزوار الخائفين.
■ ■ ■
كانت مشاهد الافتراس محتدمة فى الفيلم. والغابة الخضراء تستوعب كل هذه الحرب المحتدمة، والأغرب أنها تعود بريئة بعد أن يجف شلال الدماء. فتصلح الطبيعة نفسها بنفسها، وتعود رائعة فاتنة خضراء.
شرعت أشاهد الفيلم وأنا أفكر فى هذه الملحمة وأتساءل داخلى: هل يمكن أن يكون هذا التدافع الذى يحدث فى الطبيعة هو الإجابة عن السؤال الكبير؟ أيكون هذا الصراع الذى يحدث فى الغابة هو إرادة الخالق عز وجل، لغاية عظمى لا تحيط بها عقولنا، ونعجز عن فهمها وهضمها، وكيف يحيط مخلوق فانٍ محدود بحواسه وعمره القصير بإرادة الإله الجبار الذى خلق مائة مليار مجرة؟
ألسنا كلنا أبناء الطبيعة؟ أليس هذا المشهد- بكل ما فيه من عنف وافتراس وصراع- هو الأمر ذاته؟ معضلة الشر والألم. ولكن أهو شر حقاً؟ أم أنه ألم فقط؟ يهدف إلى التقدم، بالضبط كما دار الحوار العميق فى الفيلم:
الحرب جزء من الطبيعة. إن كل شىء حى فى هذه الغابة يحاول أن يقتل الآخر. الطبيعة الأم تحاول أن تختبر أبناءها، وتحسن نظام التسلسل الاجتماعى.
الحرب هى بمثابة صراع، والصراع يولد العظمة. التقدم دائماً هو ما ينتصر.
■ ■ ■
وها أنا ذا أسلِّم بعجزى. ما أصعب أن يحاول مخلوق فانٍ، محدود العمر، متواضع القدرات، أن يسبر هذا الكون العظيم، أو يحاول أن يصدر الأحكام. وما أشد حاجتنا إلى التواضع؟!
نتأمل، ونحن نؤمن بوجود الخالق. نحاول أن نفهم، ولكن حتى لو عجزنا عن الفهم، فكفانا حرارة الإيمان.