أن تحيا ككلاب السكك

العالم يحبس أنفاسه، وهو يتابع ذلك الفتى الأسمر نحيل الملامح، والذى يمتزج الذكاء مع العذاب فى مقلتيه، الذى اشترك بمسابقة «من يكسب المليون»، فقط على أمل أن تراه محبوبته السمراء وتعرف مكانه. لكن الصدفة لا يمكن أن تفسر أبدا نجاحه فى إجابة الأسئلة المستحيل إجابتها. نحن نتكلم عن عشرات الملايين بدون مبالغة، وهؤلاء- أصحاب البرنامج- لا يلهون بنقودهم. هذه الأسئلة المليونية ما طرحوها إلا بعد أن تأكد الخبراء باستحالة إجابتها. لكن هذا الفتى الأسمر النحيل، عامل البوفيه الذى يقدم الشاى، والذى لم يتلق أى قدر من التعليم يتحدى المستحيل، يتخطى حاجز العشرة ملايين حين يتمكن من الإجابة على جميع الأسئلة!
■ ■ ■
هنا تبدأ مهمة الشرطة. لا بد من تفسير ما يجعل المستحيل ممكناً. أن تكون- مثلا- الأسئلة تسربت بطريقة ما، أو توجد رقاقة إلكترونية فى مكان خفى، أو سماعة دقيقة لم يبصرها أحد تمليه الإجابات الصحيحة. افترض أى شىء باستثناء أن هذا الفتى الأمى استطاع إنجاز ما لم يتمكن المفكرون والعلماء وأساتذة الجامعات من إنجازه.
ووسائل الشرطة معروفة لإجبار الفتى النحيل على الاعتراف بسره. لكن الضرب والصعق بالكهرباء وسائر وسائل التعذيب كلها لا تجدى، حتى معذبه شخصيا بدأ يعتقد أنه صادق، وأنه- بشكل ما- استطاع الإجابة على هذه الأسئلة الصعبة لأنه يعرفها.
■ ■ ■
ويبدأ التحقيق ليقص الفتى الظروف التى من خلالها استطاع الإجابة على الأسئلة. إنها أكبر من صدفة. وكأنما الأقدار رتبت هذا الموقف العجيب ليدين العالم بأسره.
يبدأ الفتى فى سرد حكايته. الطفل الأسمر النحيل الذى يحيا فى العشوائيات على هامش المجتمع. حياة أشبه بكلاب السكك. الجوع والفقر والتشرد والاعتماد على النفس بعد مقتل أمه فى اضطرابات طائفية. لكن العزاء يأتى من أنه لم يعرف حياة أخرى. ودفقة الحياة فى أوصاله النحيلة تجعله يستمتع بيومه ويمارس ألعاب الطفولة. إنه يلهو مع باقى الصبيان الذين يماثلون ظروفه. والحياة- مهما ادلهمت- لا تخلو أبدا من المتع الصغيرة. كيف يعدو كجرو صغير حتى يعجز شرطى الدرك عن إدراكه؟ كيف وقع فى حب هذه الطفلة السمراء الصغيرة؟ وكيف ظل يعتبرها أجمل امرأة على ظهر الكوكب؟
نحن تواقون إلى السعادة مهما عاندتنا ظروفنا. والطفولة فيها دفقة الحياة العارمة والغفلة السعيدة. ألم تر إلى الأطفال وهم يمارسون ألعابهم الطفولية وسط أتون الحروب الأهلية؟ ألم تسمعهم وهم يغنون وسط الأوبئة والنكبات؟ والأمهات ينظرن لأطفالهن فى تسامح.
لكن الحياة تغدو قاسية بحق على أطفال الشوارع. ذلك أنهم يقعون فريسة رجال العصابات الذين لا يعرفون الرحمة. ولا تردعهم بقية من أخلاق أن يحدثوا بالأطفال عاهات مستديمة تعينهم على التسول.
هذه كانت حياة الفتى الأسمر، صاحب الإجابات الصحيحة. صحيحة لأن كل سؤال منها تصادف أنه قد عرف إجابته باللحم والدم والعذاب وفقد الأحبة. إجابات هى أشبه بالوشم التى تحدثه الخناجر وهى تغوص فى اللحم الحى لتحدث ندوبا لا تُشفى إلى الأبد.
■ ■ ■
هذا هو الفيلم المبهر Slumdog millionaire الذى أدعوكم جميعاً إلى مشاهدته. لقد استفدت من مشاهدته على المستوى الإنسانى. لقد توغل الفيلم فى تفاصيل الشقاء التى يكابدها أطفال الشوارع إلى حد أخجلنى من نفسى. ورحت أتذكر: كم كنت أشعر بأننى محطم لأسباب تافهة.
ما أشد أنانية الإنسان. يخال أن نظام الكون يضطرب إذا ضايقه شىء، وينسى المعذبين فى الأرض الذين يتجرعون الشقاء دون أن يمد لهم أحد يد المساعدة.