الذي نسيناه

موعدنا اليوم مع هذين النصين الأدبيين الرائعين، والذي يتعلق كلاهما بشيء هام نسيناه. أبدأ مع تلك الصرخة التي تذكرنا بفلسطين المنسية ومعاناة أهلنا هناك. فشكرا للدكتورة عزة عز العرب أنها ذكرتنا بما نسيناه في خضم أوجاعنا الكثيرة.
...............
(بدنا نعود) د. عزة عز العرب:

بعد بحث طال عنها، بالأمس فقط امتلكت نسخة ورقية تقريبا لكل ما خطته يدا غسان كنفاني. وكمن وجد كنزه المفقود وكاحتفاء يليق به انفردت بكتبي حتى قرابة الفجر، أتجول من رواية إلى قصة إلى كتاب.
لم يكن غسان كنفاني سوي وجعا فلسطينيا خالصا. كان يشعر أكثر مما ينبغي ويكتب أجمل مما ينبغي، لكن يبدو أن كنفاني أبي ان يحل عليّ ضيفا وحده، جاءني ومعه بعض من فلسطين.
كانت أولي مرضاي اليوم سيدة فلسطينية جميلة جاءت لعمل اشعة مقطعية على عينيها. وعلى غير عادتي اطلت معها الحديث وكنت أنا من يجرها لمزيد من الكلام. أحببت لهجتها كثيرا، في الواقع بداخلي عشق غريب لكل ما هو فلسطيني. علمت منها انها بانتظار فتح معبر رفح بفارغ الصبر لتعود إلي بلادها. (بدنا المعبر يفتح، بدنا نعود).

"بدنا نعود"، هكذا قالتها وظلت تتردد بداخلي. ما أصعب أن تكون غريبا أبديا، غريبا علي أرضك وكل أراضي بلاد الله، وراغبا أبديا في عودة ما لا تعرف متي يجئ.
لكن يومي كان محملا بمزيد من عبق فلسطين. فقد كنت على موعد آخر مع اوجاعها. بعد انتهاء عملي وأثناء خروجي وعلى بعد أمتار من مبني علاج الأورام، استوقفتني سيدة يبدو من ثيابها انها ليست مصرية. اخبرتني انها تتوسم بي خيرا وانها تود سؤالي عن أمر ما. لم يكن في ملامحها ما يثير قلقي ويدعو لابتعادي كرد فعل أصبح ضروريا للتعامل مع الغرباء. لذا استمعت اليها، كانت تغالب دموعا أراها بعينيها.
حكت لي انها فلسطينية جاءت من غزة مع زوجة ابنها التي تُعالج من ورم بالغدة الدرقية، ولديها موعد بالغد لجرعة علاج اشعاعي، ولا مكان لديهم للمبيت. وأن احدي الجمعيات الخيرية عرضت عليهم الاستضافة. كان سؤالها لي عن هذه الجمعية (أمان يا بنيتي بنروح معهم ؟).
وهنا غلبت غربتها دموعها وسال الوجع. (ما عاد بدنا علاج يا بنيتي، بدنا المعبر يفتح، بدنا نعود).
وانتهي يومي، انتهي حرفيا..تري متي العودة يا غسان؟
.......................

والآن موعدنا مع حلم. حلم رهيب أبدعت فيه الأستاذة عايدة البسيوني وصفه حتى أصابني أنا نفسي بالرعب. والعجيب أن هذا النص الأدبي البديع يتعلق هو الأخر بشيء نسيناه. لم ننسه فحسب، وإنما نتجاهله! لأن تذكره مما يزلزل حياة الواحد فينا. إنه يوم الحساب.

(حلم) عايدة البسيوني :
"للمرة الثالثة في خلال عام يتكرر نفس الحلم في نفس المكان وإن اختلف الأشخاص. أسير في شوارع قريتي القديمة نهارا. تُظلم الدنيا تدريجيا وسريعا. انظر للسماء. أرى الشمس تقترب ببطء هابطة إلى الأرض يتحول لونها الى درجات البرتقالي تمهيدا للانطفاء. تواصل هبوطها الى الارض ويتقلص حجمها حتى يصل إلى الأرض أمامي قرصا صغيرا ارجوانيا مشتعلا في سبيله للانطفاء الكامل.

انظر بهلع لسماء ليست مظلمة ظلاما تاما. أبحث عن الناس. يمر بجواري عجوز يمتطى حماره، وهو ينظر الى السماء بلا مبالاة، ويردد في اريحية حزينة:" القيامة قامت يا ولاد".