صه صه شارلوت الحلوة

للقديم سحره! وللأبيض والأسود سحره!، أنا لست أدرى على وجه اليقين أهو الحنين إلى الماضى الذى يجعلنى أفضل أفلام الأبيض والأسود، أم أن فن زمان كان بالفعل أرقى بكثير من فن الآن!، فى الحقيقة أوشك أن أعتقد هذا. دلنى على روائى واحد يضارع نجيب محفوظ، أو كاتب قصة قصيرة فى براعة يوسف إدريس، أو ملحن كالقصبجى، أو صوت فضى كليلى مراد، أو ساخر خفيف الدم كمحمد عفيفى، أو صوفى رقيق الروح كأحمد بهجت، أو مسرحى يجيد الحوار كتوفيق الحكيم؟
التطور فى التكنولوجيا لا علاقة له بالثراء الإنسانى. تقريبا كان أصحاب الموهبة زمان يملكون الوقت والظروف الملائمة، فتنضج موهبتهم الرائعة على مهل وتفوح رائحتها الذكية مثل فنجان قهوة محوج!. من ضمن هذه الروائع التى أتكلم عنها فيلم «Hush...Hush، Sweet Charlotte (1964)
صه صه شارلوت الحلوة».
■ ■ ■ ■
الفيلم بالأبيض والأسود، لكنه يشتمل على كل ألوان الطيف. إنه الفخامة والثراء الدرامى والتشويق والعناية بالتفاصيل!، لا أستطيع أن أصدق أننى شاهدت كل هذه الروعة فى ساعتين. فى الوقت الذى أنفق فيه عشرات الساعات لمشاهدة أفلام حديثة على الـ«إم بى سى»، أقل ما يُقال عنها إنها عادية. لا أفهم سر ولع الشباب بمشاهدة الأفلام الحديثة، رغم أن القديم أروع بمئات المرات!!. تجدهم يتبارون فى البحث عن الأحدث، ويشعرون بالفخر حين يشاهدون أفلام العام نفسه!، بينما الروعة، كل الروعة، فى الأفلام القديمة.
■ ■ ■ ■
يبدأ الفيلم بجريمة قتل ذات خلفية عاطفية. فالقتيل هو مجرد رجل وغد أغوى فتاة بريئة عفيفة غافلة اسمها «شارلوت»، مُخفيا عنها أنه متزوج. سوف يحجب عنا المخرج العبقرى شخصية القاتل حتى آخر لحظة من الفيلم. المهم أن القتل حدث أثناء حفل فى القصر. وبسرعة تنتقل الأحداث إلى الزمن الحالى، أى عام ١٩٦٤ الذى تم فيه إنتاج الفيلم، وقد صارت الفتاة البريئة الغافلة- كالمتوقع- امرأة فى منتصف العمر، عانسا لم تتزوج قط، وإلى حد ما شبه مختلة!، نعلم أيضا أن القاتل لم يُتوصل إليه أبدا، وهكذا تظل تحوطها الشبهات بارتكاب جريمة قتل لم تثبت عليها، لكنها ثبتت فى يقين الناس.
■ ■ ■ ■
يتعرض قصرها الذى ورثته لقرار هدم لصالح إنشاء كوبرى، فما كان منها إلا أن استدعت ابنة عمها وقريبتها الوحيدة للدفاع عن مصالحها. وفى القصر الغامض المسكون بالرعب يبدأ فجأة ظهور شبح القتيل. والأغرب أنه يغنى أغنية إنجليزية شائعة للأطفال لكنها تحمل اسم شارلوت نفسها (وهى عنوان الفيلم أيضا): «صه صه شارلوت الحلوة Hush Hush sweat Charlot». لا نعرف من يفعل هذا!، هل هو شبح فعلا، أم أن هناك من يقوم بدور الشبح؟
على كل حال: هناك ابنة عمها الحازمة الجميلة التى تعرف- بعكسها- كيف تتصرف. وهناك أيضا الخادمة غريبة الأطوار، والتى شهدت المأساة بأكملها. وهناك طبيب الضيعة، صديق طفولتها. فمن الفاعل هنا؟ ومن يتلاعب بشارلوت المسكينة، التى وإن ظلت تحتفظ بآثار جمالها القديم، فإن أثر ظهور الشبح عليها بتلك الأغنية بدأ يقودها إلى الجنون.
■ ■ ■ ■
لا أريد أن أذكر النهاية وأفوّت عليكم متعة مشاهدته. خصوصا أن كل الأفلام التى أكتب عنها متاحة على الإنترنت وبالترجمة العربية. وهذا فيلم يستحق أن تشاهده. إنه الفيلم (الهتشكوكى) الطابع الذى لم يخرجه هتشكوك، واستطاع مدير التصوير باستخدام الأبيض والأسود صناعة هالات غامضة تشبه الأحلام، لا أعتقد أن مخرجى هذه الأيام يقدرون على محاكاتها.