الحب في الخريف

قصير القامة، مستدير الوجه، ملامحه فيها لمحة من وجه قطة منطوية على دهشة. مفعم بالأحلام. تسرب العمر من قبضته مخلفا حسرة لا تُنكر وتوق لا يمكن تحقيقه. هذا هو الكهل الذى كانوا يحتفلون به بمناسبة تقاعده بعد عمله لمدة خمسة وعشرين عاما فى كفاءة وإخلاص.
كان ممكنا أن تمر هذه الليلة مثل كل الليالى لولا أنه شاهد عشيقة صاحب الشركة وهى تنتظره فى السيارة. خرج بعدها إلى الشارع المبتل بالمطر، مستنشقا رائحة الربيع التى لا توصف، مصطحبا زميله إلى محطة الحافلة لأنه يشعر بالوحدة- كما قال. والحقيقة أن ثمة سؤالا حائرا لم يستطع كتمانه. هذه الغادة الساحرة، النضرة الربيعية، الناهد صدرها، المشرق وجهها، والتى يلتف الفراء الثمين حول عنقها، وتشرق الشمس فى شفتيها، وتنظر إلى صاحب الشركة الكهل بحب! لم تكن أكثر من نظرة عابرة سددها هذا الكهل القصير من شراع النافذة الموارب، ولكنها غيرت حياته.
قال بعد تردد يسير لصاحبه: «هل يمكن لحسناء فى مقتبل العمر أن تعجب بكهل مثل صاحب الشركة؟ ألم تر إلى النظرة التى سددتها له وهو يقترب؟ ألم تشاهد الابتسامة؟ إننى لم أحظ بذلك من أنثى حتى فى شبابى».
■ ■ ■
انصرف زميله وعاد يمشى الهوينى فى الطريق المبتل بالمطر. ومن بعيد شاهد حسناء تتجادل من بعيد مع رجل يهاجمها، ثم ما لبث أن دفعها فانزلقت. وقتها اندفع نحوها بشهامة، وبسرعة ضرب المعتدى بمظلته فأوقعه أرضا. اصطدم رأسه بحافة الرصيف فأغشى عليه. أسلمت الحسناء له ذراعها، ليصاحبها إلى المنزل. يمشى جوارها، لا يصدق أنه يعيش اللحظة التى تمناها طيلة عمره. وحين مدت له الحسناء يدها ليقبلها توطئة للفراق، فإنه دعاها مجازفا لفنجان قهوة وهو يرتجف كتلميذ يطلب موعدا غراميا. لكنها وافقت بأريحية ساحرة وذهبا معا إلى المقهى.
■ ■ ■
جميلة وساحرة وشابة، جعدة الشعر وناهدة الصدر، يتبدى جسدها الأنثوى بكل محاسنه. يُضطر للتظاهر أنه ثرى كى لا تنفر منه هذه الحسناء التى فاجأته بها الأقدار فى ليلة ربيعية. يخبرها أنه يعشق الفن التشكيلى ويقتنى لوحات من تلك التى تُباع بمئات الألوف. وبالفعل تبدأ فى الاهتمام به وتهديه وردة، كانت بالنسبة له أجمل جوهرة فى العالم، وحين اصطحبها لمنزلها فى نهاية الأمسية خُيل إليه أنه يلمس النجوم ذاتها.
عجوز ومثير للشفقة، ولكنه فى هذه اللحظة أسعد رجل فى العالم. فتنة مجسدة، يمشى بجوارها مفتونا. كم هو مهين للرجل أن يعشق امرأة فى عمر ابنته. يشتهيها بكل ما فى كيانه من حرمان، وترنو هى إليه ككهل مراهق. لا يدرى أنه سوف يصبح فى يديها ألعوبة. سوف تستغله كيتى من أجل مال لا يملكه. لكنها تتحول إلى امرأة حقيقية فور أن تشاهد عشيقها الشاب جونى، تتلطف إليه، تسترضيه، يأخذ مالها ويضربها، وهى بذلك راضية. وحين ينوى أن يهجرها تتوسل إليه، تمنحه شفتيها طائعة فى قبلة حارة طويلة. الربيع للربيع، أما الخريف فلا شىء له إلا الحسرات. ومن يُهن نفسه فما له من مُكْرم.
■ ■ ■
«الشارع القرمزى Scarlet street 1945»، تحفة لا توصف لاكتشافى الجديد «إدوارد روبنسون»، الذى لم أشاهد له فيلما قطّ إلا وأبهرنى.