أربعون (شلم)

لكل واحد منا ذكرياته المميزة فى الطفولة، السعيدة منها والحزينة، تحتاج فقط إلى أسلوب جذاب وخفة دم فى عرضها، مثلما فعلت د. تماضر محمود فى هذه الذكرى الطريفة.
■ ■ ■
«الحقنى يا بابا.. ستى سرقتنى.. تعب أربعين يوم ضاعوا».
كان عمرى وقتها ست سنوات أو أقل. بالطبع ذهبت إلى أمى أولا وشكوت لها ما فعلته جدتى معى. لكنها لم تفعل أى شىء. بل نهرتنى حين قلت بوضوح إنها سرقتنى.
قالت: «عيب يا بنت متقوليش على أمى كده».
غادرتها باكية. يبدو أننى سقطت فى أيدى عصابة (هكذا صوّر لى عقلى وقتها) أم عجوز وابنتها. لم يكن لى ملجأ إلا بابا، ودعوت ربى ألا يكون عضوا فى هذه العصابة الشريرة.
قال لى فى حنان وهو يجلسنى على ركبته: «تعالى بس يا هبهوب (تدليل هبة. لم أكن أعلم وقتها أن اسمى تماضر. ولكن هذه حكاية أخرى). فهمينى إيه اللى حصل وأنا أجيب لك حقك».
قلت بصوت مسرسع من فرط الانفعال وأنا أستريح فى أحضانه: «كنت محوشة مع ستى مصروفى. وكل يوم أجيب بـ(شلم) فشار وأديها (الشلم) التانى!
كنت بالطبع أقصد (شلن) وهو الخمسة قروش لمن لا يدرى من الأجيال الجديدة.
ضحك أبى وهو يقلدنى: «شلم؟». قلت غاضبة: «أنت بتضحك عليا؟» وهممت بالقيام لكنه حوطنى بذراعيه: «لا لا كملى. وبعدين إيه اللى حصل؟».
قلت: «باقولها دلوقتى عايزة فلوسى. لقيتها بتدينى دوول بس. ورقتين بس. (ولوحت بالورقتين لأبى) وهى كان معاها اربعين (شلم). وعايزة تفهمنى إن الورقتين دول فيهم فلوسى كلها! مفكرانى عبيطة!».
قبل أن يرد أبى فوجئت بجدتى أمامى وقد احمر وجهها غضبا. قالت وهى تدافع عن نفسها أمام أبى: «والله يا أستاذ محمود أنا مضحكتش عليها. ده أنا جمدتهم بس وهى زعلانة وعايزة فلوسها الكتيير الفكة).
كتم أبى ضحكته وراح يسترضى جدتى محاولا تهدئتها: «أنت بتحلفى ليه بس يا حاجة بسيمة؟ ما تزعليش. دى عيلة مش فاهمة».
لكن جدتى بدت مستاءة. نادت على شقيقتى التى تكبرنى طالبة منها– وهى تعطيها عشرة جنيهات- أن تذهب للبقال فتفك اتنين جنيه شلنات لتحصل على الأربعين (شلم) التى فضحت الدنيا من أجلها. ثم تقسم فى لهجة صارمة، شبه طفولية: «والله أنا ماهحوشلك تانى. توبة».
■ ■ ■
ويضحك أبى أكثر، وتأتى شقيقتى بالأربعين (شلم) فكأننى استرددت روحى. يحيا العدل. لكن هذا لم يمنع جدتى أن تأخذنى فى أحضانها فى المساء وتدثرنى وتحكى لى الحدوتة المعتادة، وكأن معركة لم تكن!
بالمناسبة كان إيقاظنا للذهاب للمدرسة من مهمات ستى. ولأنها لم تقرأ ولا تكتب كانت تعتمد على حاستها السادسة فى تخمين الوقت، وبعض المساعدات الخارجية، مثل زقزقة العصافير الصاخبة على نافذة حجرتنا. فتعلم أن الساعة قاربت على السابعة. فتبدأ بإيقاظنا واحدة تلو الأخرى.
■ ■ ■
فى اليوم التالى ذهبت إلى المدرسة واشتريت بالأربعين (شلم) كيسين منفصلين ملأتهما بأشهى أنواع الحلوى والشيكولاته. وعند عودتى طلبت من أمى وستى أن تغمضا عيونهما. خلاص فتحى عينك. كل سنة وأنت طيبة يا ماما. كل سنة وأنت طيبة يا ستى.
إنه الحادى والعشرون من مارس. عيد الأم الذى ادخرت نصف مصروفى على مدى أربعين يوما من أجل هذه الهدية. أعطيتهما الأربعين (شلم) ولكن هذه المرة بمرضاتى كاملة.
مش أنا اللى يتنصب عليا!.