حياتنا المعقدة وحياتهم البسيطة المستقيمة

كنت أقود السيارة، وبنصف أذن أستمع إلى الراديو. كان هناك سؤال عن الأرملة الحامل، وكم تعتد بعد وفاة زوجها؟ خصوصا وهناك آيتان كريمتان أولاهما تؤقت العدة بأربعة أشهر وعشر، وأخرى حتى وضع الحمل: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) والأخرى (وأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، فبأى الآيتين تعمل المرأة؟

شدنى السؤال فأنصت للشيخ عميق الصوت. قال إن هناك حديثاً يحسم الأمر، فى الصحيحين، وهو للصحابية «سبيعة الأسلمية». نص الحديث هكذا: «كانت تحت سعد بن خولة وهو من بنى عامر بن لؤى، وكان ممن شهد بدرا فتوفى عنها فى حجة الوداع وهى حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلتْ من نفاسها تجمّلت للخطّاب فدخل عليها أبوالسنابل بن بعكك (رجل من بنى عبدالدار)، فقال لها: ما لى أراك تجمّلت للخطّاب ترجين النكاح! فإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة: فلما قال لى ذلك جمعت على ثيابى حين أمسيت وأتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسألته عن ذلك، فأفتانى بأنى قد حللت حين وضعت حملى وأمرنى بالتزوج إن بدا لى». انتهى الحديث.
■ ■ ■
وهكذا أفتى الشيخ بجواز زواجها بمجرد وضع الحمل. نسيت الأمر ثم وجدت نفسى فى اليوم التالى وقد راح الحديث يتردد فى رأسى مصحوبا بكثير من علامات التعجب. خذ عندك مثلا:
أولا: المرأة مات زوجها وهى حامل، فتخيل أى مصيبة وقعت بها! ثم هى ببساطة- بمجرد وضع الحمل- تفكر فى الزواج.
ثانيا: هى واضحة ومستقيمة فى مقصدها، لا تنكر احتياجها الفطرى لرجل، ولذلك تتجمل للخطّاب.
ثالثا: كيف تتجمل المرأة للخطّاب وقد أفهمونا أن المرأة فى الأصل ماكثة فى بيتها لا يظهر سوى عينيها؟ لكنها تجملت بحيث ظهر ذلك لرجل!
رابعا: المجتمع يتعامل مع الأمر بدون حساسيات. فهذا الرجل سألها بطريقة مباشرة: «مالى أراك تجمّلت للخطّاب وكأنك ترجين النكاح؟». وهى الأخرى لم ترتبك ثم هى. وإنما تذهب للرسول صلى الله عليه وسلم تستفتيه فيفتيها بجواز زواجها طالما وضعت الحمل، إن شاءت.

تأملوا هذه البساطة المذهلة، والتعامل مع العلاقة بين الذكر والأنثى بدون تعقيدات طالما تمت فى إطار الشرع، وقارنوا بينها وبين ما يحدث فى مجتمعنا. ممنوع على المرأة أصلا أن تبدى رغبتها فى الزواج وإلا لمزوها وغمزوها وكأنها تطلب حراما! ثم إذا مات زوجها أصبح زواجها مستهجنا اجتماعيا لا يُقابل إلا باستنكار. ثم إنها إذا تجرأت وتزوجت فيجب أن تمر فترة طويلة، والأفضل أن تكرس حياتها لأولادها وكأنما عليها أن تدفن فطرتها. ثم لا أحد يجرؤ أن يسألها مباشرة إن كانت تريد الزواج.

عالم من الخداع المركب، ليته ينطوى على طهر، بل يشتمل على عفن ومخادعة. بينما كان عالم المجتمع الإسلامى الأول غاية فى البساطة والمباشرة. هكذا كان الناس يتزوجون ببساطة. فإذا حدث الوفاق فنعمّ به، وإن حدث الطلاق أو الوفاة فما أسهل بدء حياة جديدة. فى اعتقادى أن معظم المشاكل المرتبطة بالطلاق فى عصرنا الحالى ناتج من معرفة الزوجة أن الطلاق يعنى اغتيالاً لحقها فى زواج آخر. لذلك يحتدم المقت ويود كل من الطرفين لو يدمر الآخر.
حقا ما أبعد البون بين حياتنا المعقدة وحياتهم البسيطة المستقيمة!