في المترو

من حسن الحظ أن قصة اليوم لمؤلفها "شريف رفعت" قصيرة. هذا معناه أنني أستطيع أن أكتب مقدمة عن هذا الكاتب المصري الرائع. إنه مهندس مصري سكندري، هاجر إلى كندا في السبعينيات، وهناك قضى معظم حياته مع زيارات خاطفة لمنشأه في الإسكندرية. ثم عن له فجأة –في الستين- أن يعاود هواياته القديمة ويجرب الكتابة.
أشهد أن له قلما سيّالا عزير الإنتاج وإصرار على تحقيق ذاته الأدبية كما حقق نجاحه العملي في شبابه. أسلوبه يتمتع بالبساطة ونفسه تمتلئ بالهدوء، وقبول الحياة بمتناقضاتها كما هي. وله نظرة فلسفية وهو يسترجع المخزون من تجارب عمره وذكريات حياته. وإنني لأرجو أن يكون له عموده الأسبوعي المستقل لأنه جدير بهذا، ولأن الموهبة هي بطبعها نادرة، وتستحق دائما الاحتفال بها، لكنها تموت إذا لم تلق العناية اللائقة. ما الذي كان سيحدث لي لو لم أجد سبيلا للنشر؟ بالتأكيد لم أكن لأكتب ما كتبته طيلة السبع سنوات الماضية. وإنني لأرجو أن ينال الأديب الجميل شريف رفعت بعضا من حسن حظي. لقد كانت لدينا موهبة قصصية نادرة اسمها "د. هشام محمود"، وحاولت مرارا وتكرارا أن يكون له عموده الأسبوعي المستقل ينشر فيه ابداعاته. لكن وأسفاه! لقد اختنقت الموهبة من الإهمال وصار اليوم يتجنب أن يكتب ولو قصة واحدة، هذا مع تأكيدي أنه لو أتيح له النشر –في الوقت المناسب- لكان الآن فخرا لمصر كما كان يوسف أدريس من قبل.
...................
والآن أترككم مع قصة الأديب المهاجر "شريف رفعت" وعنوانها "في المترو"، وأرجو منكم أن تلاحظوا النهاية البارعة.
"جلستْ يفصلني عنها ممر عربة المترو، تبدو في منتصف الثلاثينات، شعرها قصير، عيناها غائرتان بهما حـَوَل بسيط، هناك ابتسامة مستكينة على شفتيها بينما تضم لصدرها دمية على شكل دب أبيض، نظراتها موجهة لأرضية عربة المترو كأنها تتجنب النظر لركاب العربة وترفض عالمهم، أخَذَتْ تـُمَسِد فروة الدب ببطأ وتهمس في أذنه بحنّية.
همست لرفيقتي "أترين هذه المرأة؟ مسكينة تبدو مختلة عقليا"، هَمَسَت بدورها "ليست مختلة عقليا، لكنها ذات قدرات عقلية محدودة"، رددت "فليكن، بالتأكيد تعاني من وحدة قاتلة، وليس لها أحد يشاركها حياتها، لذلك لجأت لهذه الدمية"، قالت بصوت هامس "كف عن الحملقة فيها حتى لا تجرح مشاعرها"، أجبت "عندكِ حق".
في المقعدين المقابلين لنا كانت هناك بنت صغيرة في حوالي الخامسة تجلس مع أمها، البنت تنظر إلينا بتمعن، عيناها كبيرتان جميلتان مندهشتان، عندما تقابلت أعيننا حولت نظراتها للمرأة حاملة الدب، نظرت إليها وابتسمت، في لحظة من لحظات التجلي الفلسفي فكرت في الدب الدمية وتـَغَيُر أهميته تبعا لمن يفكر فيه، هو بالنسبة لي مجرد شيء لا يعني الكثير، بينما تراه البنت الصغيرة لعبة جميلة تتمنى اقتنائها، أما بالنسبة للمرأة المخبولة أو ذات القدرات العقلية المحدودة ـ كما يجب أن أصفها ـ فهو رفيق حياتها وصنو روحها.
اهتزت عربة المترو، ابتسمت البنت مسرورة وأخذت تبالغ في حركة جسدها كأنها في أرجوحة، نظرتُ نظرة جانبية للمرأة، وجدتها تضم الدب لصدرها بشدة كأنها تحميه من اهتزاز العربة، نَظَرتُ لرفيقتي وابتـَسَمْت.

اقتربت محطة مترو وجهتنا، عندما وقف المترو ساعدتني رفيقتي على الوقوف، قلت لها "اسرعي قبل أن يـُغـْلَق الباب"، قبل نزولي نظرت نظرة أخيرة إلى المرأة صاحبة الدب، شعرت نحوها بشفقة غامرة، وأنا أخطو خارج العربة سمعت البنت الصغيرة تهمس لأمها "لماذا يتحدث هذا الرجل مع عصاه؟".