لعن الله الفقر ومن تسبب فيه

أعرف أنه من أروع الأفلام العالمية. أعرف أنه من علامات السينما الهوليودية. أعرف أن جين فوندا لا تُذكر إلا بهذا الفيلم. لكن الأمور لا تُحسب هكذا. لا تكفى جودة الصنعة وعبقرية الإخراج كى أستطيع أن أشاهده. الفيلم مؤلم فعلا، وقد هممت عدة مرات أن أوقفه. لا حيلة لى فى مشاهدة كل هذا البؤس البشرى. نبيلٌ أن ينبهنا الفن إلى إخواننا فى الإنسانية الذين يكابدون الفقر ويتجرعون البؤس. لكن الحزن الذى غمرنى أثناء مشاهدة الفيلم لم يكن محتملا. أسوأ ما فيه أنه حقيقى. وأن هذا الكوكب العجيب، الأزرق الأخاذ، منذ ملايين السنين يدور فى الفضاء مترنحا من الألم. مذهولا بقدرته على اجتماع النقيضين فوق جرمه: الأغنياء حد التخمة، والفقراء حد الجوع. يوما ما سوف ينفجر هذا الكوكب، راميا بشظاياه المتناقضة فى الفضاء اللانهائى. لعل العدم يكون أرحم بالإنسان من أخيه الإنسان.
عن فيلم «إنهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟» أتكلم. هذا العنوان الشاعرى الرقيق الحزين. الفيلم من إنتاج عام 1969. وبرغم روعته أنصحك ألا تشاهده. كمية الألم فى هذا الفيلم تفوق الوصف، برغم أن أحداثه- ويا للعجب- تدور فى حلبة رقص! تصور معى قسوة الفكرة: فى أعوام الكساد الكبير فى أمريكا بثلاثينيات القرن المنصرم، تدور مسابقة رقص يشارك فيها الشباب المتضور جوعا، والفائز هو من يستطيع البقاء على قدميه حتى النهاية. سوف يحصل الثنائى الفائز على ألف وخمسمائة دولار. كل ذلك من أجل تسلية الأغنياء المترفين، أصحاب اللغد الكبير والكروش البارزة، كى يشعروا أنهم أفضل. إنه رقص ولكن رقص حتى الموت. الآن نفهم مغزى العنوان: «إنهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟».
بلى إنهم يقتلونها ويقتلون معها كل شىء نبيل. تصور معى: رجال ونساء يشاركون لمجرد الحصول على الوجبات. قواعد المسابقة قاسية: لا توجد مسؤولية على الجهة المنظمة للمهرجان الراقص لو مرض أحدهم أو مات! مدة الراحة عشر دقائق لا أكثر كل ساعتين. الرقص مستمر ليلا ونهارا. والمتسابقون عضهم الجوع وأذلهم الفقر. إحداهن حامل ولكنها مغلوبة على أمرها. كلهم يعرفون أن المسابقة سوف تستمر أكثر من ألف ساعة! اليوم أربع وعشرون ساعة فاحسبها أنت.
الساعات تمضى والأجساد تئن. والراقصون بدأوا فى التساقط واحدا بعد الآخر. والمذيع المتحمس يحاول أن يبعث فيهم الحماسة. ثم يقررون- تخيلوا!- أن يجعلوهم يركضون كنوع من التكدير! أنتم فقراء فاركضوا. ما علاقة الرقص بالركض سوى أن يدفعوا الملل عن المشاهدين الأثرياء.
■ ■ ■
ولعلك تقول إنه فى المسابقات الأوليمبية يبذل الرياضيون أكثر من هذا الجهد، ولكن الفارق المهول بين المنافسة للمجد والمنافسة بسبب الحاجة. هذا الفارق الذى يجعل الأول شرفا والثانى عبودية.
إنهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟ والحقيقة أنهم يقتلون قلبى. أنا وكل من يملك ذرة إنسانية. لا يستطيع أن يهضم التفاوت المهول بين أبناء آدم وحواء، الذى جعل هذا يعضه الفقر، وجعل ذاك يموت من التخمة.
تناقض مرير ما زالت الإنسانية تترنح تحت وطأته القاسية. ولعل الشيوعية ما كانت إلا احتجاجا صارخا صوب ذلك الظلم فى التوزيع.
والذى أعلمه جيدا أن الله تعالى ليس مسؤولا عن هذا الظلم. المسؤولون هم البشر وحدهم. الله جل جلاله لم يأمرنا إلا بالتراحم. ألا لعنة الله على الفقر وعلى الذين تسببوا فى جعلهم فقراء.