الشمعة الآثمة

تصوّرت كل شىء باستثناء أن تموت ابنتها. ولذلك حين وقع المحظور فإنها ارتبكت. بقيت بين التصديق وعدم التصديق لفترة طويلة. عرائس ابنتها وملابسها (التى كم هى صغيرة) كانت وقودا لحزنها! وحين حاول زوجها- بدافع العطف- أن يبعد هذه الذكريات فإنها رفضت. لقد استعذبت العذاب وأرادت أن تستبقيه مادام يمت بصلة لصغيرتها الغائبة.
■ ■ ■
كانت فى حزنها الأبدى، الآسن، الراكد، اللانهائى والمحيط بها من كل الجوانب. عرفت الطريق لمساجد آل البيت وأولياء الله الصالحين، ثم قادها اليأس إلى أوكار الدجالين، ورغم أنها كانت تعرف أنهم يكذبون فقد كانت تستشعر الراحة حينما يخبرونهم أن حلوتها الغالية بجوارها طيلة الوقت، ولكن هناك حاجزا من المقادير يمنعها من رؤيتها.
■ ■ ■
قادها التطواف إلى صومعة هذا الساحر مخيف النظرات، والذى أمرها فى صرامة أن تشعل عود الثقاب لتضىء شمعة مريبة الشكل، عجيبة اللون، سيئة الرائحة. استجابت له ويدها ترتعش. شاهدت الذبالة وهى تشتعل بضعف، توطئة أن تتوهج. وبعينين متسعتين لا تصدقان ما ترى، شاهدت حلوتها الغالية تتراقص على ضوء اللهب! شاهدتها بوضوح وكأنها ترقص فوق الشمعة.
■ ■ ■
خرجت من صومعة الساحر ودموعها تسيل بلا انقطاع. لأول مرة تشاهد الأمر الحقيقى. ليس دجلا ولا تلاعبا بالكلمات ولا بيع الوهم، وإنما هى حلوتها الغالية تكلمها وكأنها لم تمت قط. تخبرها بأسرار صغيرة من تلك النوعية التى تكون بين الأم وابنتها!
منذ ذلك الحين تغير كل شىء. لم تعد المرأة المكلومة الغائصة فى الاكتئاب، وإنما أشرق وجهها ونطقت ملامحها بالفرح والانطلاق. وبدأ جميع من حولها يتساءلون عن السبب!
■ ■ ■
المشكلة أن الشمعة كانت تتناقص، وعما قريب ستنتهى! المفاجأة كانت حين أخبرها الساحر أن هذه الشمعة مصنوعة من دهن رجل مشنوق حُكم عليه بالإعدام. وأنها الوسيلة الوحيدة الآثمة للحصول على خواصها السحرية. وأنه لم يعد أمامها إلا أن تذهب إلى أحد المستشفيات أو دور العجزة فتقتل أحدهم فى هدوء ثم تذهب آمنة. بعدها يتسلل الساحر إلى مقبرته لاستخلاص شحمه. هذا إذا كانت تريد أن تراها مرة أخرى.
فى المرة الأخيرة، استصرختها حلوتها الغالية قبل أن تنطفئ الشمعة للأبد. راحت تصرخ «ماما.. ماما»، وهى تناديها بين الدموع وتمد يدها.
■ ■ ■
وهكذا وجدت نفسها تذهب إلى المستشفيات بلا إرادة. تتسلل إلى عنابرها، تتأمل الوجوه السقيمة فى اشتهاء. تمشى كالمنومة ثم تغادرها دون أن تفعل شيئا. وبدأ الإدمان يعذبها ويلح على حواسها، لقد أدمنت رؤية صغيرتها كل ليلة. وتشعر بعطش رهيب لا ترويه كل أنهار الأرض إلى رؤيتها.
وفجأة، وبينما كانت تبكى وهواء الشتاء البارد يصفع وجهها، وجدت يداً تربت على كتفها. التفتت فوجدت زوجها يرمقها فى عطف وعتاب. كان قد استشعر القلق من غيابها المتكرر كل مساء وزياراتها الغامضة، والطريقة التى تتحدث بها عن ابنتها وكأنها موجودة.
وهكذا بدأ يتبعها خفية. وحين احتضنها بحرارة حكت له كل شىء، شرع يحوقل ويستغفر ويستعيذ بالله من شياطين الجن والإنس. ثم أخبرها، وهى بين أحضانه أنه يحبها. وأنهما سينجبان أبناء آخرين، ولكنهما لن ينسيا أبدا صغيرتهما الحلوة. وحين يحين الأجل، بعد وقت طال أو قصر، فإنهما سيلتقيان بها فى جنة الله ورحمته. وأنها يجب ألا تسمح لصغيرتها الحلوة بأن تؤسر فى سحر أسود، وأنها يجب أن تطلق سراحها.
■ ■ ■
شرعت تهتز بعنف بين أحضانه، ثم ما لبث أن شدها فى حزم أبوى مشوب بعطف، وراحا يسيران معا صوب منزلهما.