النشأة

ولعل أهم سؤال يشغل القارئ، ويهم الأمهات بصفة خاصة: كيف يمكن أن يصبح أطفالهن فى مثل نبوغ أحمد خالد توفيق؟.
لقد كانت خلطة محيرة ولكنها بسيطة. بالطبع هناك الموهبة. هذه النفحة الربانية الذى لم يفلح العلم فى تفسيرها بعد! أينشتين-مثلا- كيف استطاع أن يصل إلى النسبية؟، نجيب محفوظ كيف أبدع لنا كل هذه الروعة الروائية؟، البعض يفسرها بالجينات والبعض بغلبة فص المخ الأيمن!، والحقيقة عند الله. ربما يستطيع العلم فيما بعد أن يطور أدواته فيفهمها، ويتغير تاريخ العالم تماما.
العنصر الثانى فى الخلطة هو قدرته على بذل الجهد. أو حسب التعبير القرآنى البديع، والذى طالما ردده أبى لى حينما يريدنى أن أبذل مجهودا أكبر: «يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ».
هذا ما فعله خالد بالفعل. لم يضع وقته فيما لا ينفع، بالقدر الذى يستطيعه الإنسان طبعا.
أما العنصر الثالث والأهم فى الخلطة فهو (المكتبة). عندما فتح عينيه على الدنيا وجد أمامه مكتبة والده العملاقة.
والده أنفق، بالمعنى الحرفى للكلمة، كل قرش دخل جيبه على اقتناء الكتب، فيما عدا أساسيات الحياة من مأكل وملبس. فيما بعد قال لخالد: «لقد كان بوسعى أن أبنى عمارات بثمن الكتب. ولكنى فضلت أن تكون عقول أبنائى هى العمارات التى أنشئها».
ولم يكن يعلم وقتها إلى أى حد صدقت نبوءته.
المكتبة التى وجدها خالد فى انتظار طفولته كانت أكبر من أى مكتبة عملاقة. لا يوجد كتاب صدر فى أى فرع من فروع المعرفة إلا وكان موجودا. حتى الصحف والمجلات احتفظ بها بترتيب صدورها.
كل هذا الكنز كان فى انتظار خالد. لاحظ أنه لم يكن هناك فضائيات ولا إنترنت ولا فيس بوك لعين يستنزف الوقت. بمعنى أن اليوم كان كامل الدسم، كما حليب الأبقار الطازج بالضبط، وكانت الشمس تتلكأ وتتباطأ حتى الغروب. تحول خالد إلى قارئ نهم لكل فروع المعرفة منذ طفولته الباكرة. كان هذا هو تفسير ثقافته الموسوعية، والتى يصعب أن تتكرر فى هذا الزمن الذى يكثر فيه الالتفات.
دعنى أحدثك عن والده. شاهدته أول مرة، حين زرت خالد فى العيد مهنئا، فوجدت الأسرة مجتمعة فى غرفة الصالون مع خطيب أخته الكبرى (د. ألفت). ما زال المشهد مرتسما فى عينى وكأنه قد حدث أمس فقط. والده كان يجلس وسيما واثقا. وكان بالفعل رجلا استثنائيا يؤمن بالعلم والثقافة والمعرفة. ودار الحديث بيننا. ويبدو أننى عبرت عن آرائى بكثير من العصبية، فسألنى والده: «أيمن. لماذا أنت غاضب؟».
وارتج علىّ القول وقد أدركت فعلا أننى غاضب بلا قضية (غالبا هى رغبة المراهقين فى الاختلاف والتمرد).
لا أذكر الآن ماذا قلت وقتها، ولكن يبدو أنها كانت آراء دينية، لأننى أذكر أنه قال لى: «كان أديسون قديسا أفاد البشرية كما لم يفدها أحد. هل تتصور حياتك بدون المصباح الكهربائى؟». ثم راح يقص علىّ قصص علماء آخرين مثل باستير وإدوارد جينر ونيوتن وتسلا وأينشتين وبلانك ومدام كورى، ذاكرًا ما فعلوه، ومعددًا أفضالهم على البشرية، ومؤكدًا: «هؤلاء هم أبطال الإنسانية الحقيقيون».
هذا هو البيت الذى نشأ فيه خالد، فهل تعجبون أنه أخلص للعلم والمعرفة إلى آخر لحظة فى حياته؟.